كل شيء.. إلى حد ما! «بقلم أنيس منصور»

أنت عاقل، ولا شك، أنت تفكر وتدبر، وتحسب حساب الغد وبعد الغد، وتمشي على رجليك، وعلي الجانب الأيمن من الشارع، وحتى لو مشيت على الجانب الأيسر، فأنت تعرف خطورة عبور الشارع، عاقل، وأنت تقرأ وتكتب وتقول: إن هذا يعجبك، وهذا لا يعجبك، عندك أسباب لكل شيء، وإذا أردت شيئا فأنت لا تخطفه بالقوة، وإنما تفكر في وسيلة للحصول عليه، بالقانون، أي بالعقل، بالذوق أي بالعقل، أو بالحيلة أي بالعقل، كل شيء يدل على أنك عاقل!

ولكنك تظل تمشي بالساعات في الشوارع بلا هدف وإذا توقفت عند أحد المحال التجارية، فإنك تلمح فتاة، الفتاة في أصبعها دبلة، وصاحب الدبلة ممسك بذراعها الأخرى، وأنت تمشي وراء الاثنين.

وإذا رأيت العين الحمراء من هذا الزوج، فإنك تتجه إلى فتاة أخرى، فإذا جاءت إشارة المرور ومنعتك من اللحاق بها، فإنك تقف في طابور طويل أمام باب السينما، وكلما اقتربت من نافذة التذاكر، عدت إلى آخر الطابور، ثم تدخل السينما وتنام، مع أنك عاقل!!

ولكن هذه الأفعال لا تدل على أن العقل الذي كنت تفكر به وأنت تعبر الشارع كالبهلوان بين السيارات، قد تعطل أو سقط منك، فأنت عاقل ولا شك، ولكنك عاقل إلى حد ما، تدري ماذا تفعل ولكن إلى حد ما.

أنت ولا شك تحب زوجتك، وأنت لم تضيع وقتك في الشوارع هكذا إلا لأنها قد سافرت إلى أهلها في الريف، وأنت تحبها جدا، فيوم مرضت في الأسبوع الماضي كنت تجلس إلى جوار سريرها، مع أن مرضها عادي جدا، ولكنها العشرة الطويلة، الحب القديم الذي ولد معكما وأنتما صغيران، إنها ابنة عمك، أو أكثر من ابنة عمك، إنك تحس أنها أختك، أو تماما كأختك، وهذا ما يضايق زوجتك، وما يضايقك أنت، فأنت تثور على نفسك وعلي حبك البارد الجامد الذي يشتعل بالنار كلما رأي فتاة في الشارع، أو حتى كلما رأي خادمه تنشر الغسيل، ولكن هذا القلب يصبح كالقطار عندما يقترب من المحطة، وعندما يقترب من زوجتك، دقاته منظمة كأنك نائم، هادئة كأنك طفل، أو كأن أحدا ليس معك، أو كأنك أمام أختك أو والدتك، فإذا بك تلعن الأيام التي كانت فيها بيوت العائلات تتجاور، والأطفال يلعبون في الشارع لعبة العريس والعروس، فهي عروسك منذ طفولتك.

فأنت تحبها، وتلعنها، وتثور عليها.

إذن فأنت تحبها إلى حد ما، وهي أيضا تحبك إلى حد ما.

وعندما تهرب من البيت إلى المكتب، يصبح الأتوبيس كسفينة الحجاج، وكأنك في طريقك إلى مكان مقدس، كل شيء هناك مليء بالناس والأوراق، والسعاة يقفون منزعجين عند رؤيتك، كأنهم كان لا بد من أن ينتبهوا لمجيئك منذ خرجت من البيت، كأنهم فوجئوا بتشريفك الذي يحدث كل يوم وفي هذه الساعة المبكرة، وأنت سعيد بهذا الاستقبال الكاذب، وتجلس على مكتبك وتشم رائحة التراب، ورائحة الورق والسجائر الخامدة والشمس الكسول وهي تكدس الذباب حولك، ولكنك لا تهتم بهذا كله، وتمد يدك إلى ورقة ملفوفة أمامك وتلتهم سندويتش فول وطعمية. مع أنك رفضت أن تذوق هذا الفول في البيت، فأنت تحب عملك، وتحب مكتبك وتراب مكتبك والسعاة الواقفين على باب مكتبك، ووراء باب مكتبك تجلس أنت تطلب من الله أن يريحك من بيتك، كل من في بيتك.

ولكن حبك لهذا المكتب وما فيه من تراب وورق وذباب وسعاة وساندويتشات ليس حبا ثابتا، إنه إلى حد ما.

فمنذ علمت أن دورك في الترقية لم يأت بعد، ماذا فعلت، لم تجلس على مكتبك، لم تمسك ورقة، لم ترفع عينيك في مواطن جاء إليك، لم تهتم بساع واحد وقف لك، اتجهت إلى بيتك، ونزعت ملابسك، وفي البلكونة رحت تملأ صدرك بالهواء، وكانت زوجتك سعيدة بعودتك، ولم تشأ أن تسألك، فقد كان ذلك اليوم هو يوم الخميس، ليلة الجمعة.

فأنت تحب مكتبك إلى حد ما، وتكره بيتك إلى حد ما.

ولكنك مع ذلك لست ساخطا تماما، وإنما إلى حد ما! ففي كثير من الأحيان يري الناس السعادة على وجهك، أنت الآن في الأربعين، وليس على وجهك علامة واحدة، لا توجد تجاعيد حول عينيك ولأفي جبهتك، وبشرتك متوردة، وعيناك لامعتان وابتسامتك مجلجلة، ولاتزال أسنانك سليمة أغلبها، على الأقل لم تضع طاقما بعد، فأعصابك هادئة، أو مستريحة، ولكن هذا الهدوء إلى حد ما أيضا.

ففي بعض الأحيان عندما تمشي في الزمالك، وتري سيارة فخمة فإنك تتطلع إليها، إلى رقمها، كأنك تعرف أحدا يملك مثل هذه السيارة، أو كأنك تمارس هواية الفقراء. وهي حفظ ماركات السيارات، وتنتقل من آخر الشارع إلى حيث تقف السيارة، وكأي طفل صغير تلمس السيارة بيدك، ثم تضغط عليها بأظافرك، كأنك تريد أن تشوهها، إن تحطمها، إن تحطم ولو جزءا صغيرا منها، فأنت إذن ساخط إلى حد ما، وأنت حاقد إلى حد ما.

وعندما تجد إلى جوار السيارة شيخا يتسول، فإن يدك تسرع إلى جيبك ولا تجد فكه، فتعطيه الخمسين قرشا التي رفضت أن تعطيه لأحد أبنائك في الصباح.

فأنت إذن تحب أبناءك إلى حد ما، وأنت لست ساخطا على كل الناس، وإنما على أصحاب السيارات الفخمة، إلى حد الخربشة أي إلى حد ما.

وأنت مؤمن بالله، ومؤمن بقضائه، وقدره، وكثيرا ماتردد: ان الخير هو ما اختاره الله، وكثيرا ماتردد: لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع، وكثيرا ماتقول: الجنة تحت أقدام الأمهات، لاشك أنت مؤمن، وانت تصلي معظم الأحيان، وأنت تصوم في غالب الأحيان وأنت تزور قبر والديك، وتترحم عليهما، وقد رآك بعض الناس وأنت تبكي، وفي الحقيقة أنت بكيت عندما تذكرت كيف كانت حياة والديك، وانك وعدت الله ألاتكرر حياة والديك، والا تكرر نفس العذاب، فتكون أبا كوالدك، وتكون لك زوجة كأمك، ويكون هناك أولاد مثلك، ويكفرون بالأبوه والأمومة، والحياة العائلية لقد وعدت بهذا كله، ومع ذلك تزوجت، فأنت تحب والديك إلى حد ما، وأنت تكره اسرتك إلى حد ما، ولكن هذا الحد ما قد زاد، وكل يوم يزداد، والنار تشتعل بينك وبين زوجتك، وأولادك يتفرجون تماما كما كان يحدث بين والدتك وأبيك، وكنت تحتار أيهما على حق، هذا ابوك، وهو طيب ومسكين ومريض وهذه أمك وهي مريضة ساذجة وهي مكافحة أيضا، انهما يتضاربان بكلام كالرصاص، وبنظرات كالنار، وبدموع تغلي، والفقر يفتك بهما وبك وأخوتك، والمرض يهلك الأب ويحطم الأم وكل يوم تشتعل النار، وكل يوم تسقط الأم على الأرض، وإلي جوارها يسقط الأب، وفي ذلك اليوم حملت الاثنين إلى الفراش، وعلي مقعد إلى جوارهما جلست وارتفع صوت يعلن طلوع النهار، وارتفعت مع صوته يداك تقول: يا رب إلا هذه الحياة، أي شيء إلا أن اكون أبا، أي شيء يا رب!!

واختار الله لك ان تكون أبا، وضقت -استغفر الله- بمشيئة الله، وربما كان هذا هو السبب في انك لا تصلي دائما ولا تصوم غالبا.

فأنت مؤمن إلى حد ما، مستسلم لإرادة السماء إلى حد ما.

وأنت رجل. طبعا ليس من الضروري ان يكون كل أب رجلا. ولا كل زوج رجلا. ولكنك رجل إلى حد ما، فالرجولة مائة في المائة غير موجوده، والأنوثة مائة في المائة لاوجود لها، ولكن نسبة الرجولة فيك عالية، فمعني ذلك انك رجل إلى حد ما، وانثي إلى حد ما، فأنت تحمل مسئولياتك بلا شكوي، إلى الله، والشكوي لله، ليست شكوي، فهذا طبيعي ان يشكو المؤمن لربه كذلك ولكنك لاتشكو في نهاية الشهر، ولاتشكو وأنت تعاون بنات خالتك ولا تشكو وأنت تدفع أموالا، وان كانت ضئيلة إلى أبناء اخوتك، ان زوجتك لا تعرف شيئا من هذا كله، وأنت لاتشكو، فالأموال تنزل من بين أصابعك، كعرق جبينك، قليلة ولكنها تتساقط، وأنت رجل لأنك تضحي بالكثير من أجل غيرك، ان زوجتك مريضة منذ سنوات، وكان في وسعك ان تتزوج غيرها وهي التي طلبت منك ذلك، ولكنك لم تفعل، ان كراهيتك لابنة عمك وزوجتك أم أولادك، إلى حد ما، وهذه رجولة، فأنت رجل ولاشك، ولكنك رجل إلى حد ما.

فأنت تقف امام المرآة طويلا، وأنت اشتريت صبغة سوداء للشعرات البيضاء التي ظهرت على جانبي الرأس، وعندك فرشاة لتنظيف أظافرك، والوان كرافتاتك فاقعة، لا تتناسب مع سنك ولامركزك، واستخدام العطور والبريانتين، واستخدام البودرة باسراف في عنقك وصدرك، والخادمة قد اكدت لزوجتك التي لاتصدق إنك وقفت عاريا ورحت تغرق نفسك بالبودرة، لا أحد يصدق، ولكنه حدث، مع انه لاتوجد في حياتك امرأة أخري، ولكن المرأة التي في حياتك، هي الأنثي التي في شخصية كل رجل، والتي تظهر فيه عادة عند الأربعين، فأنت أنثي إلى حد ما، ورجل إلى حد ما.

وأنت صبور أيضا.

والا ماوصلت إلى هذا المكان من كلامي، وأنت يسهل خداعك أيضا، فأنت تصورت انك ستصل إلى شيء من هذا الكلام، وان كنت قد لاحظت انك كنت تقفز فوق السطور، ولاتعبر على السطر من أوله إلى آخره، ولذلك فأنا أري انك صبورإلي حد ما، وأنت أيضا لايسهل خداعك فأنت منذ السطور الأولي ادركت انك لن تصل إلى شيء، وإنما الذي دفعك إلى قراءة كلامي هذا هو العادة، فقد تعودت مني أن أقول لك كلاما له معني، له أول وله آخر، وأنا خذلتك هذه المرة.

الحقيقة انني لم أخذلك تماما، إنما إلى حد ما، فكل شيء في الدنيا هو إلى حد ما، لا صدق، لا كذب، ولا حب، ولا كره، ولا إيمان ولا كفر، ولا حياة ولا موت، ولا نهاية ولابداية، إنما كل شيء إلى حد ما.

بقلم: أنيس منصور

أضف تعليق

error: