خطبة بعنوان: الأزمات تتطلب التراحم وليس الاستغلال.. ومحاربة الغش والاحتكار والتطفيف

الأزمات تتطلب التراحم وليس الاستغلال

نعم؛ لدينا اليوم خطبة جمعة مكتوبة ومؤثرة وقويَّة، بعنوان: الأزمات تتطلب التراحم وليس الاستغلال. متناولة ضرورة محاربة الغش والاحتكار والتطفيف في المكيال والميزان؛ وكل الأدواء على هذه الشَّاكِلة.

نسوق إليكم هذه الخطبة المباركة في ملتقى الخطباء وصوت الدعاة بموقع المزيد، آملين داعين أن تنتفعوا بها جميعًا، أئمة ومأمومين. وأن ننهض بمجتمعنا الإسلامي إلى كل خير وبر.

مقدمة الخطبة

الحمد لله حمدا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه. أحمدك ربي كما تُحِب أن تُحْمَد، وأشكرك كما يليق بك أن تُشْكَر، فأنت الجدير بالحمد الحقيق بالشكر. أمرتنا بالحلال سعيًا وعملا وتناولا.

وأشهد أن لا إله إلا الله. وحده لا شريك له. قال في سورة البقرة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾.

وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، أرسَله الله رحمة للعالمين. قال -صلوات ربي وسلامه عليه- «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». فلقد أكرمنا الله به وببعثته.

الله أكرمنا وأرسل أحمدا — بالحق بالتوحيد أيضًا بالهدى
نورٌ أهَلّ على الوجود ورحمة — بحر من الأخلاق فيض من الندى
عزَّت به الدنيا وأسفر صُبحها — والليل عنها من ضياه تبددا
والمؤمنون على الطريق تتابعوا — كلٌ بطَه قد تأسّى واقتدى
بالذِّكر جاء وبالكتاب ولم يزل — في العالمين مرتلا ومرددا
رب الوجود تباركت أسماؤه — الله من نوره أهدى الوجود محمدا

اللهم صَلِّ وسلم وزد وبارك على النبي المصطفى والحبيب المجتبى، وعلى أزواجه أُمهات المؤمنين وذريّاته وآل بيته؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.

الخطبة الأولى

أما بعد عباد الله؛ من جوانب العظمة في إسلامنا شموليّته. فهو دينٌ شامِل لجميع مناحِ الحياة. فما من أمر يحتاجه الإنسان في دنياه إلا ويجد في الإسلام بُغيته، يجد في الإسلام طُلبته، يجد العلاج الناجع الأمثل في كتاب الله وسنة رسول الله.

فهو دين يتساوق كل تساوق مع النفس الإنسانية، وينسجم انسجاما تامّا مع النفس الإنسانية ليحقق لها سعادتها ورقيها بإذن الله ﷻ.

تحري الحلال والبعد عن الحرام

ولمّا كانت النَّفس الإنسانية توّاقة إلى المال، مجبولة على حب المال، تسعى جاهدة في تحصيله. حثّنا الشرع الحنيف على طلب المال بطرقٍ مشروعة. فقال الله ﷻ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾. وقال النبي ﷺ في حديث عن المال الحلال والمطعم الحلال وما يقابله من الحرام وعاقبته «أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: ﴿يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم﴾. وقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم﴾. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!». اللهم أطعمنا الحلال يا الله يا رب العالمين.

وهكذا كان إسلامنا بشَرعه الحنيف. كانت الشريعة الإسلامية -ولا زالت- تدعو إلى إعلاء قيم التسامح، تدعو إلى إعلاء قيم التيسير والسهولة. حتى تتم التعاملات الطيبة بين بني البشر.

ولذلك يقول رسول الله ﷺ «رحم الله رجلا سمحا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى». فجميع التعاملات المالية في الإسلام وقضايا البيع والشراء وغيرها، كلها قائِمة على أساسٍ من العدل والوضوح والصدق. وبهذا تكون البركة كما قال نبينا ﷺ «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا. فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما». والحديث في صحيح البخاري.

ومن هنا جاءت شريعة الإسلام ضابِطة لجميع التعاملات والتصرفات المالية. فحرَّمت أي اعتداءٍ على النفس الإنسانية على مال الإنسان. حرمت أيّ تلاعب بأموال الناس وبأقوات الناس وبحاجيات الناس. ومن هنا حرم الإسلام الاحتكار. حرم الإسلام الاستغلال. حرم الإسلام الغش. حرم الإسلام التدليس.

حُرمَة الاحتكار

أما الاحتكار فهو حبس السلعة والاستحواذ عليها في الأسواق حتى يرتفع سعرها، وبذا يحقق المُحْتَكِر أموالا طائلة وأرباحًا عظيمة. وقد نهانا رسول الله ﷺ عن هذا، حين قال «من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين؛ فهو خاطئ».

وقال ﷻ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾. وقال النبي ﷺ «كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه».

إنه بهذا الاحتكار يعتدي على النفس في إنسانيتها. يعتدي على النفس في كرامتها. يعتدي على النفس في حرمتها.

إن المحتكر؛ وهو يتلاعب بأموال الناس، وهو يتلاعب بأقوات الناس؛ لا خلق له، ولا وطنيّة لديه. غلبته أنانيته فجعلها فوق أي اعتبار.

إن هذا المحتكر، وهو يريد أن تتراكم أمواله؛ نسي أنه فرد في هذا المجتمع، عليه أن يتألَّم بآلامه. كان حريًا به أن يستشعر غضاضة الفقير ومسغبة المسكين. ولذا، توعَّده الله ﷻ بنقيض قصده؛ فقال رسول الله ﷺ «من احتكر على المسلمين طعامهم ، ضربه الله بالجذام والإفلاس». وقال -كما في رواية أخرى- «من احتكر طعاما أربعين يوما فقد برئ من الله وبرئ الله منه».

ما هذا؟ إنه إسلامنا، إنه شرعنا الذي يحافظ علينا، يحافظ على أنفسنا، يحافظ على أموالنا، يحافظ على أقواتنا.

إن هذا الاحتكار يجعل هناك ضررًا على الفرد وعلى المجتمع؛ بل أضرار. به تنتشر البطالة، به تكون العداوة والبغضاء والكراهية بين أفراد المجتمع. وفوق كل هذا فهو غلول حرام. قال الله ﷻ ﴿وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾. وقال النبي ﷺ «لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به».

الغش التجاري

ومن هذه الأدواء القاتلة الفتاكة بمجتمعاتنا، والتي أتى الإسلام لكي يقضي عليها؛ الغش. وله صور عديدة. ومنها أن بيع الفاسد على أنه صالح. ومنها أن يبيع المواد الغذائية منتهية الصلاحية.

وقد حارب الإسلام هذا. ونهانا رسول الله ﷺ عن هذا. فقال «من غش فليس مني».

ومن صوره أن يدُسّ الرديء في الجيد حتى يبيعه بثمن الجيد. وقد نهانا رسول الله عن هذا، وبيَّن فساد هذا؛ حين مر على طعام يباع، فوضع يده فيه، فنالت أصابعه بللا. فقال «ما هذا يا صاحب الطعام؟» قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: «أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني».

ليس من أتباع رسول الله، ليس ممن تَربّوا على مائدة رسول الله، ليس ممن تعلموا بتعاليمه. فهو المُربى بعين من الله ورعاية.

يا حبيبنا يا رسول الله…

ربّاك ربك جل من رباك — ورعاك في كنف الهدى وحماك
سبحانه أعطاك فيض فضائل — لم يعطها في العالمين سواك
سوّاك في خلق عظيم وارتقى — فيك الجمال فجلّ من سواك
سبحانه أعطاك خير رسالة — في العالمين بها نشرت هداك
وحباكَ في يوم الحساب شفاعةً — محمودةً ما نالها إلاّك
الله أرسلك إلينا رحمةً — ما ضلّ من تبعت خطاهُ خطاك

ها هو رسول الله، وها هي تعاليمه، وها هي مبادئه، وها هي تربيته، وها هموا أصحابه. فهذا هو جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله عنه-، وكان يبيع في السوق. فيبيّن العيوب التي في السلعة. فقيل له: يا إمام، إنك لو بينت العيوب التي في السلعة لا تبيعها أبدا على الإطلاق. فقال: لقد بايعنا رسول الله على النُّصح لكل مسلم. ما هذا الجمال! ما هذا الجمال في ديننا! ما هذا الجمال في إسلامنا! ما هذا الجمال في شرعنا!

تطفيف الكيل والميزان

ومن صور الغش والتدليس أن الله ﷻ حرَّم التطفيف في الكيل والميزان وعاقب ﷻ أُمة من الأمم ساعة تجاوزت الحد في الكيل والميزان. فقال الله ﷻ على لسان نبيه شعيب ﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾.

بل إنه يعلمنا ﷻ هذا الأمر، ولذلك توعدهم الله ﷻ بأليم العذاب وشديد العِقاب، فقال ﷻ ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ | الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ | وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ | أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ | لِيَوْمٍ عَظِيمٍ | يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.

التاجر الصدوق الأمين

يا عِباد الله، يا أمة الإسلام؛ أن التاجر الصدوق يهنأ بمعيَّة الله، يهنأ بظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله. إن التاجر الصدوق له مكانة عُليا عند الله، له منزلة رفيعة سامقة عند ربنا ﷻ.

هناك ينادي رسول الله ﷺ «يا معشر التجار… إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى الله وبر وصدق».

وقال -صلوات ربي وسلامه عليه- «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء».

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. استغفروا الله يغفر لكم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والعاقِبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن نبينا وسيدنا وحبيبنا محمدا عبد الله ورسوله. اللهم صل وسلم وزد وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأزمات تتطلب التراحم وليس الاستغلال

أما بعد؛ عباد الله. هذا هو إسلامنا بهذه الشريعة الخالدة، يدعونا إلى كل خير وهُدى، وينأى بِنا عن كل شر وردى. يدعونا إلى أن نتكاتف ونضع الآليات للقضاء على هذه الأدواء القاتلة الفتَّاكة بمجتمعاتنا، لكي نقضي على الاحتكار، لكي نقضي على الغش، لكي نقضي على التدليس، لكي نقضي على هذه الأمور التي وقف الإسلام أمامها سدا منيعا وحاجزا قويا.

خاصَّة في أوقات الأزمات. نعم، فإنَّ الأزمات تتطلب التراحم وليس الاستغلال. ويقول وزير الأوقاف المصري الدكتور مختار جمعة: من قلَّل هامِش ربحه تخفيفًا على الناس ولاسيما وقت الأزمات فهو له صدقة.

نعم؛ فليس من الإسلام استغلال أوقات الأزمات لرفع الأسعار ورفع موجة الغلاء التي يكتوي بها الناس.

فقد دعانا إسلامنا إلى طلب الحلال، إلى طلب الرزق الحلال؛ كما في حديث الإمام البخاري، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال «اشترى رجل من رجل عقارا له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني؛ إنما اشتريت منك الأرض، ولم أبتع منك الذهب، وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها. فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال أحدهما: لي غلام، وقال الآخر: لي جارية، قال: أنكحوا الغلام الجارية وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقا».

ما هذا الجمال في إسلامنا! ما هذا الجمال في ديننا! ما هذا الجمال في الورع! ما هذا الجمال في الرزق الحلال!

هكذا إسلامنا يدعونا إلى أن نتكاتف لنكون يدًا واحِدة، لنكون قلبا واحدا، لنكون لحمة واحدة، لنكون إخوة مع بعضنا البعض. ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ «المسلم أخو المسلم».

فيا أيها العالَم، يا أيتها الأمم؛ هذا هو إسلامنا، وهذا هو شرعنا، وهذا هو ديننا. دين السماحة، دين السهولة واليسر، دين لا يعرف تطرفا ولا غلوا؛ وإنما يعرِف السهولة واليُسر والسماحة. دين يحرم ويجرم أي اعتداءٍ على النفس الإنسانية بالقتل وسفك الدماء، ويحرم ويجرم أي اعتداءٍ على النفس الإنسانية بالاحتكار وبالغش وبالتدليس.

الدعاء

فاللهم يا ذا الجلال والإكرام، ويا ذا الفضل والإنعام؛ اللهم ارزقنا الرزق الحلال يا الله.

اللهم أحينا على الإسلام، وأمتنا على الإسلام، واحشرنا في زمرة أمة الإسلام؛ تحت لواء رسول الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام.

نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.

اللهم اجعل مصر بلد الأمن والأمان، والسِّلم والسلامة والخير والإسلام، والرزق الوفير والخير العَميم يا الله يا رب العالمين.

اللهم احفظ مصر وأهلها، احفظ مصر وجيشها، احفظ مصر وقائدها.

اللهم اجعل مصر أمنا أمانا، سِلما سلاما، سخاء رخاء، وسائر بلاد المسلمين.

اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا دينا إلا قضيته، ولا مريضا إلا شفيته، ولا ميتا إلا رحمته، ولا حاجة إلا قضيتها يا الله.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.

وصَلِّ اللهم وسلم وبارك على النبي المختار، وعلى آل البيت الأطهار، وعلى الصحب الأخيار.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين؛ اذكروا الله يذكركم. وأقم الصلاة.


وبعْد؛ فكانت هذه خطبة الجمعة؛ بعنوان حرمة الغش والاحتكار، للشيخ أحمد محمد عوض -حفظه الله وبارك فيه وجزاه خيرًا. وقد اخترنا لها عنوانًا يتناسَب ومحتواها، فكان: الأزمات تتطلب التراحم وليس الاستغلال.. ومحاربة الغش والاحتكار والتطفيف.

لدينا هنا أيضًا: خطبة عن الاحتكار وغلاء الأسعار «مكتوبة»

أضف تعليق

error: