مقال عن حب الوطن والإنتماء اليه

مقال عن حب الوطن

في صغرنا، حينما بدأ التفكير يومض في عقولنا، كانوا يلقوننا في المدارس، وفي بيوتنا، بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة، أنه يجب أن نحافظ على حب الوطن، وأن نفتديه بكل ما نملك، بأرواحنا، وعلومنا، وتفكيرنا، كل شيء من أجل الوطن، كل خطوة يجب أن تكون من باب الانتماء للوطن، ولا نسمح أبدًا أن نخرج عن حدوده، سواء بفكرنا، أو بأي شيء آخر نستطيع فعله.

ثم نضجنا قليلًا، فإذا بهم يعلموننا طرقٌ وخطوات لتطوير الوطن، لأننا نحبه، ولا يجب أن نتخلى عنه، وكلها كلام نظري في أغلب الأوقات، نستذكره جيدًا، دون أن نعيه أو حتى نخطو في صدده خطوة عملية واحدة، كل ما يهمنا أن نستذكره جيدًا حتى نكتب ما يليق في ورقة الامتحان، ونحصل على درجة مرتفعة في هذا الموضوع.

حب الوطن

كل ذلك دون أن نعي، أصلًا، ماهية الوطن، أو شيئًا عن تاريخه، أو مدى ما تحمله الوطن من أجلنا، ومدى ما فعلناه من أجله، من أجل ألا يسلب منا، كل ذلك، لو عرفناه، فإنا نعرفه في كتاب، ونتلقاه من معلم، ونحفظه جيدًا، حتى يحين وقت الامتحان، ونصب حفظنا في سطور الإجابة، وبمجرد الانتهاء، ينمحي كل ذلك من ذاكرتنا، دون حتى أن نعطي لأنفسنا فرصة لنفهمه، ويظل الوطن على حاله، لا يتغير أبدًا، بل يزداد تأثرنا بمن هم غرباء عنا، ويبدو ذلك جليًا في تصرفاتنا، وأفكارنا، ومظاهرنا، ويكون الوطن هو الضحية.

فإذا أردنا أن خرج من هذه العباءة البالية، وأن نفتح أعيننا على شمس الحقيقة، وأن نرى وطننا كما يروه هؤلاء الغرباء عنا، لابد أن نسأل نفسنا، ما الوطن؟ وإلى أي حال أصبح عليه؟

إن الوطن هو الوعاء الذي نصب فيه أفكارنا، ومفاهيمنا، وثقافتنا.. وتحضرنا. الوطن هو الحديقة الشاسعة التي بيدينا أن ننبت فيها الزهور بمختلف أنواعها وألوانها، أو نحفر فيها عميقًا بحثًا عن أشياء لن نجدها أبدًا، ونشوهها تشويهًا لا يليق بالغاية التي كان ينبغي أن تكون عليه هذه الحديقة.

الوطن هو الأرض الجدباء، التي وُجدنا فيها من قديم الزمان، وأردنا أن نعمر فيها، بالتفكير، والعمل، ووضع اللبنة فوق اللبنة، حتى نرى صرحًا كبيرًا عملاقًا، وسط صروح أخرى يعمرها أناس آخرين، ذلك الصرح هو ما أسميناه.. الحضارة.

ومن الممكن أن نعرف الوطن على النقيض تمامًا، أنه الأرض العامرة، المتحضرة، التي اقتلع منها الناس مظاهر فكرهم، ذلك الفكر الذي كان السبب الأساسي في تعميرها، وغرسوا بدلًا منه، التقليد الأعمى، الطمع، الجشع، والتخلف. كلٌّ يعرف وطنه حسب ما آل إليه الوضع.

ولكن ما أستعجبه حقًا هو أننا، سواء عمرنا أو أفسدنا، نعرف جيدًا بمدى حبنا تجاه الوطن، ونتصدى دائمًا لأي قوة تحاول أن تنشب أنيابها فيه، أو تفرض علينا حصارها، أو تفعل أي شيء قد يسلبنا وطننا.

ورغم أننا حاولنا بقدر الإمكان أن نعرّف الوطن، وهو تعريفٌ من وجهة نظر أحادية، قد يتفق معها أحد أو يختلف، وعرفنا من خلال ذلك التعريف ما تحول إليه الوطن، سواء إلى الخراب، أو العمار، فإن الإنسان عليه تجاه وطنه، الذي يحبه، الكثير من الواجبات التي يجب ألا يتخلى عنها، بل يطور فيها، وله حقوق يجب أن يبحث عنها، ولا يترك نصيبه فيها، لكن بشرط، ألا يبتعد عن نطاق التحضر، والمنطق، دون اللجوء إلى العنف والتدمير.

وساذج جدًا من يريد أن يستخلص حقوقه من وطنه، دون أن يقوم بواجباته، بل الأحرى أن يؤدي واجباته جيدًا، حتى يحصل على الحقوق، فإذا زرعت الشوك، لن تحصد إلا الشوك، وإذا زرعت الرحيق، ستحصل على عسل النحل.

واجبات الإنسان تجاه وطنه (حضارته)

قلنا أن الوطن هو البوتقة التي يشكل فيها الإنسان حضارته، إذًا فالوطن هو الحضارة، سواء كانت حضارة متحضرة أم متخلفة.

وليس معنى أن الوطن، وقد علا فيه البنيان، وزادت فيه المصانع، وكثرت فيه الشوارع والسيارات والطائرات وغيرها من مظاهر التقدم التكنولوجي أنه بذلك قد بنى حضارة، فكم من أوطان ارتفعت مساكنها، وسويت شوارعها، وعلت طائراتها وزادت قوتها، لكنها على المستوى الفكري في الحضيض، تعتمد على أناس من ثقافات أخرى يستلهمون منهم، وتجد هؤلاء، على المستوى الفردي، رغم ما في جيبوهم من ثروات، إلا أنهم لا يملكون ذرة من فهم، أو طريقة للتعامل مع غيرهم من البشر، هم فقط دأبوا على مواكبة التكنولوجيا، ويتباهون أنهم في قمة تطورهم وتحضرهم.

إن الحضارة، إذا أردنا أن نفهم معناها، فهي التي تقوم على ما ينتجه العقل، ليس فقط من أجل تسهيل المعيشة، إنما، إلى جانب ذلك، ما ينتجه العقل من أجل ذات الإنسان، فالإنسان يفكر، ويبدع حتى يظهر للناس مدى براعته في أمور لا يستطيع أحد غيره أن يفعلها، ومدى هذا الفن في تطوير روحه، وما أثره في مظهره وتفكيره، فيصير في تعامله مع الناس، ذا أسلوب مميز، ولباقة في اللسان، وبراعة في الفكر، إذا وضعته في أي منصب، تعلم كيف يديره على الوجه الأمثل، دون اللجوء لشيء سوى عقله، وهذا ما يتطلبه الوطن لكي يرتقي الإنسان في جوانب حياته، في القوة الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، فيصير رمزًا لكل ما حوله، على مستوى الفرد، والمتسوى المحلي، والمستوى العالمي.

وأذكِّر ذلك الذي يهب مدافعًا، أن بالعقل والتفكير أردنا أن نجعل التكنولوجيا تتحدث معنا، وأنها قادرة في كثير من الأحيان أن تفعل للبشري ما لا يستطيع أن يفعله من أجله أخوه البشري، وأقول: أن التكنولوجيا لها كثير من الأضرار على البشري رغم ما فيها من تسهيلات للحياة والمعيشة، وإن التكنولوجيا بتطورها أدت إلى لجوء كثير من العقول للخمول، فكل شيء أصبح في المتناول، مثلًا: يود الفرد أن يقلب صفحات التواصل الاجتماعي، دون أن يعطله أحد عن تواصله، وذلك على حساب المقربون منا، بالإضافة إلى التوتر العصبي الذي يلاحق الإنسان نتيجة هذه التكنولوجيا. التكنولوجيا ليست هي الحضارة، هي فقط سهلت أمورًا كثيرة للإنسان، ودون أن يستغلها الاستغلال الأمثل، أصبحت مصدرًا لكسله وخموله عما يجب أن يفعله ويتعلمه.

واقرأ أيضًا: تعبير عن حب الوطن والإنتماء إليه

ما قلته في الأسطر القليلة السابقة، فيه تفصيل بشكل موجز للواجبات التي يجب أن يفعلها الإنسان تجاه وطنه حتى يرتقي به إلى غاية الحضارة المتقدمة، يجب أن يعمرها بفكره وعقله ليرتقي بمستواه المعيشي، في الاقتصاد والسياسة والمستوى الاجتماعي.

حقوق الإنسان على وطنه

قلنا: أن من يزرع رحيقًا، يحصد عسلًا؛ فالإنسان إذا عمر الأرض بالشكل الواجب، ليبني الحضارة، فإن الوطن سيعطيه حياة رغيدة، لا تشوبها تلوثًا، أو تخلفًا، بل يخلف عليه ما فعله، وما بناه.

من يسع لبناء العقل، ويستغنى عن بناء المباني، فإن حياته ستكون أكثر راحة وتحضرًا.

الإنسان القديم حين كان يستوطن أرضًا، كان يفكر كيف يعمرها، حتى يستفيد من رغدها، إما بالزراعة، أو بالكشف عن المناجم، وكل شيء يدر عليه استخدامات عديدة تجعل حياته سهلة رغيدة. لكن كل ذلك كان يتأتى بالعمل المستمر الدؤوب، بحبٍ خالص لتعمير الأرض، وهذا ما نعرفه بحب الوطن.

حب الوطن يعني أن تزرع فيه رحيقًا، لتحصد منه عسل النحل.

أضف تعليق

error: