محاضرة عن الهجرة النبوية

محاضرة عن الهجرة النبوية

في ذِكرى الهجرة النبوية الشريفة؛ هناك قواعِد يجب أن نُذَكركم بها؛ فالإيمان والأمل توأمان، والإيمان والعزة صنوان. لا يجتمع في قلبٍ واحد إيمان ويأس، ولا يجتمع في قلب واحد إيمانٌ ومهانةُ نفس. ﴿لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾، و ﴿لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.

فإذا رأيت الرجل يُسام خُطَّة الذل والهوان وهو صابر عليها، مطمئن إليها؛ أو رأيته يقيم بدار كُفر لا يُمكَّن فيها من إعلان عقيدته، ولا من أداء فرائِضه، وهو قادرٌ على التحوّل عنها ثم لا يفعل، فاتهمه في دينه، أو في عقله، أو فيهما جميعا.

اتهمه في دينه إذا كان فِراق المال والوطن والأهل والسَّكن أشَق على نفسه من مغاضبة ربه والتنكر لضميره وكرامته. واتهمه في عقله إذا كان يأسه قد صوَّر له أن حياته رهينةٌ بدار إقامته، وأنه لن يجد ورائها مذهبا ولا متقلبا.

قال ربنا ﷻ ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا | إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً | فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾.

وقال ﷻ ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾.

كل ذلك ليس من شأن المؤمن الممتلئ بعقيدته، إنه لا يكون حبيس أرض ولا أسير عادة. إن إيمانه وأمله وبُعد هِمَّته توسع له من الأمور مضايقها وتفتح له مغالقها، فإذا ضاق عليه أُفق اتسعت له آفاق، وإذا أغلق دونه باب فُتحت أمامه أبواب.

يقول تأبط شراً:

فَذاكَ قَريعُ الدَهرِ ماعاشَ حُوَّلٌ
إِذا سُدَّ مِنهُ مِنخَرٌ جاشَ مِنخَرُ

ويقول رب العالمين ﷻ ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾.

الهجرة في أشرف معانيها

الفرار بالدين من الفتن والفرار بالكرامة من دار المهانة، تلك هي الهجرة في أشرف معانيها. وهي من أول فرائِض الدين وأول ثمرات الإيمان.

هذا في حق آحاد المؤمنين، فما ظنك بزعيم المؤمنين؟ أليس أحقَّ بها وأولى؟ إن حِمله أثقل وتبعته أعظم، ذلك أنه مسؤولا عن نفسه وحسب ولكنه مسئولٌ كذلك عن نشر دعوة وهداية أُمَّة. فإذا فرضنا أنه مُكِّن في بلده من أداء واجبه الفردي في عقيدته وعبادته، ولكن حِيل بينه وبين واجبه الأعلى في إبلاغ رسالته، أليس حقا عليه أن يلتمس مكانًا آخر يكون مصدر إشعاع لهذه الرسالة؟

لماذا كانت الهجرة في هذا التوقيت؟

وهنا يحق للسائل أن يسأل: ما بال نبيّ الإسلام ﷺ لم يلتمس هذا المخرج منذ اللحظة الأولى؟ ما باله حين لم يجد من الملأ إلا صدّا وصدودا ونفورا وتنفيرا؟ ينأون عنه بأنفسهم وينهون عنه غيرهم، ويقفون بالمرصاد لمن آمن منهم، فكلما نبتت نابتة مؤمنة، تلقوها بالتعذيب طورا والتشريد طورا؛ بل تعدى إلى عشيرته الأقربين وإلى شخصه الكريم.. ما باله إذًا لم يخرج من فوره إلى أرض الله الواسعة؟ ولكنه لبث في قومه يكافح عشر سنين دأبا؟

ذلك بأن الله جلَّت حِكمته، أراد أن يجعل منه ومن أصحابه السابقين الأولين، مثلا في التضحية والصبر. ذلك ليعلم الناس أن طريق المجد ليس مفروشا بالحرير، ولا مغروسا بالأزهار والرياحين.

﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾.

ذلك بأن الله جلَّت حكمته، حَفِظ عليه وعلى صحابته في هذه المحنة؛ عقولهم، وقلوبهم، وشممهم، وإباءهم؛ فلم يحنوا لها رأسا، ولم يحبسوا من أجلها صوتا؛ بل كانوا يصيحون بكلمة الحق مدوية في وجه الوثنية الساخطة الطاغية “الله أحد، الله الصمد”.

ذلك بأن الله جلَّت حكمته، لم يجعل مُقام نبيه في مكة عبثا، ولا سعيه فيها هباء، فلقد كان يصنع القلوب فيها بقوله وفِعله، وكان للإسلام فيها كل يوم كَسْب جديد، على الرغم من رعونة خصمه العنيد.

ذلك بأن الله جلَّت حكمته، لم يشأ أن ينقله منها، حتى يمهد له في خارجها نُزلا كريما، ومُقاما حميدا في دار خير من داره، وعشيرةٍ خير من عشيرته جزاء صبره وجهاده.

من أجل ذلك كله لم يأذن الله لرسوله أن يغادر مقر منصبه، وأن يفارق مهد دعوته إلا في الساعة الفاصلة. حين بلغت حمية الجاهلية قمتها، حين أرادت كلمة الكفر أن تجتث الرسالة من منبتها، حين قررت مكة أن تقتل هذه الدعوة بقتل داعيها.

عندما قررت قريش اغتيال النبي ﷺ

تلك هي المؤامرة الغادرة التي سجلها القرآن مفصَّلة، كما سجل فشلها وحبوطها. كل ذلك في ألطف إشارة وأوجز عبارة، ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾.

نعم؛ لقد نفدت كل حيلهم في صَد محمد عن دعوته، وفي فضّ الناس من حوله، لقد جربوا الوعد والوعيد، والملاينة والمخاشنة، والإيذاء والمقاطعة؛ فلم يغنهم كل ذلك شيئا.

ما هذه الدعوة التي لا تريد أن تتوقف في سيرها؟ ولا أن ترجع القهقرى؟ لقد أصبح لها الآن أنصار في خارج مكة يزداد عددهم عامًا بعد عام، فما الحيلة؟ لا بد من اتخاذ تدبير حاسِم.. وهكذا اجتمعوا ليتشاوروا في أنجع الوسائل للتخلص من صاحب هذه الدعوة.

وتُقدَّم للمؤتمرين الاقتراحات الثلاثة التي أوجزها النَّص الحكيم، فيُرفض اثنان منها بالإجماع، ويُقبل الثالث بالإجماع. وكان تدبير الله أسرع واحكم، فقد أوحى إلى نبيه ﷺ أن يخرج من في تلك الليلة الموعودة؛ فخرج منها سِرا هو وصاحبه أبو بكر -رضي الله عنه-   وباتت العصابة المُسلحة تحرس البيت عبثا حتى أصبحت وهي تظن أن فيه ضالتها المنشودة، ولكن الله خيّب ظنها، ووقى نبيه سيئات مكرها.

وكان هذا هو أول يومي النصر البارزين في هذا الحادث التاريخي.

وكان اليوم الثاني هو يوم الغار، حين وقف الأعداء على حافته، حتى إن أحدهم لو رفع قدمه لرأى محمدا وصاحبه.

وقد سجل القرآن هذا اليوم الثاني كذلك في أشرف سورةٍ وأكرمها، ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم﴾.

قد تودّ أيضًا الاطلاع على هذه المقترحات:

أضف تعليق

error: