لوحة رحلة الحياة.. تشكيل عميق للمعرفة الروحية

أجمل اللوحات التشكيلية تلك التي تتجاوز حدود الشروط الفنية للرسم وتغازل النص الإبداعي الذي يمكن أن يكتب، أي أن تكون اللوحة عبارة عن نص شعري أو نثري لا يجد المتلقي مشقة في تماسه مع حركة الريشة ورؤية الفنان، ذلك يضعنا في إطار منطقي وواقعي أكثر من خلال النظر إلى لوحة «رحلة الحياة» للفنان الأمريكي المهم توماس كول الذي رسم أربع لوحات في نطاق وصفي متسلسل لرحلة الإنسان في الحياة منذ الميلاد والطفولة ثم الشباب فالكهولة.

في لوحته الثانية يكبر الطفل بحيث يصل مرحلة الشباب وهو يمتلك القدرة على البقاء ومواجهة التحديات، فيما تحيطه ما يبعث على استحقاق الحياة من خضرة وزهور تحيط ضفتي نهر يعبره وهو يثق في الوصول إلى الضفة ما يشير إلى فكرة جوهرية وهي أن امتلاك سلاح البقاء يوفر قدرة كبيرة على الحياة ومواجهة تحدياتها وأخطارها التي تسلب حق الحياة وهو أحد الحقوق الطبيعية لأي إنسان وغير قابل للسلب.

وجود الشمس في اللوحة دلالة أخرى على الحياة وتمد أشعتها الذهبية روح الإنسان بقوة دافعة لأن يواصل الإبحار حتى يصل منتهاه، وهي في الوقت نفسه إشارة روحية إلى أهمية ومغزى المعرفة الروحية في تزويد الإنسان بما يجعله مؤهلا لأن يمتلك القوة لأن يعيش ويستمتع بحقه في الحياة، ورغم انحراف النهر في مرحلة تالية تصل إلى اللوحة الثالثة حيث ينهار الشباب وتبدو القوى الظلامية أكثر سيطرة على أجواء اللوحة والحياة إلا أن القيمة الفنية التي زخرت بها اللوحة الثالثة تبدو أقرب إلى مخاطبة الأمل الإنساني وحاجتنا إلى القوة للمضي في حياتنا.

وبصرف النظر عن الأبعاد الدينية في موضوع اللوحة إلا أن الأبعاد الجمالية تضفي على اللوحة قيمة أصيلة كعمل إبداعي راق وهادف وله نكهة فنية ميزت كول كأحد أهم التشكيليين الرائعين، فسعي الإنسان الدائم إلى المعرفة الروحية من الثوابت التي احتشدت في كثير من جوانب الفكر الإنساني وحركة المجتمعات والأفراد لمعرفة جوانب أخرى باطنة وأكثر عمقا في المستويات الإدراكية، ولعل ذلك ما يميز جميع أعمال كول الذي ينزع إلى ذلك البعد المعرفي والروحي في لوحاته.

ويعتبر كول من أهم رسامي الطبيعة الأمريكيين في القرن التاسع عشر، وقريب من المدرسة الواقعية وقد نجح في إحداث تحول لافت في اللوحة الأمريكية بما تركه من أثر فني عميق في تجارب كثير من الفنانين الأمريكيين، ولم يكن رساما فقط إذ امتلك جوانب إبداعية أخرى ككتابة الشعر ما جعل مواهبه تخدم بعضها وتتكامل معها تجربته الفنية والإبداعية بشكل عام، وقد توفي في ريعان شبابه وحظي باحترام النقاد والفنانين في وطنه والعالم بما قدمه من أعمال عميقة وخالدة كان لها الأثر الكبير في مسيرة الفن التشكيلي وطنيا وعالميا.

بقلم: سكينة المشيخص

لدينا هنا أيضًا فهرس رائِع من أجلك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error:
Scroll to Top