نُسطِّر بين أيديكم الآن قصة ثورة الحملان. هي أحد القصص المؤثرة، المُمتلئة بالدروس والعِبر والمواعظ. ابدأ بالقراءة ثُم اعطِنا رأيك وتعليقاتك وما خرجت به منها.
يتكئ بساعديه على السلة التي أمامه والتي تحوي متطلبات يومه. تقوده حمارته التي يمتطي ظهرها، بل بالأحرى أغنامه التي لا يعبأ حتى بوجودها أمامه. ينظر إلى الحقول الخضراء على جانبي الطريق بعيني الحاسد تارة وإلى السماء بعيني الآمل تارة أخرى.
سحب متفرقة يختلط الأبيض منها بالرمادي، ينظر جهة الشمال لعل السحب القادمة من هناك أكثر قتامة، يمنى نفسه بسقوط المطر، يرفع أنفه ساحبا الكثير من الهواء إلى قفصه الصدري، يمعن الشم ربما ثقبت أنفه رائحة المطر.
يحكم لف عباءته حول جسده النحيل حتى لا يتسرب البرد الذي يتمناه إلى عظامه. تداهمه أشعة الشمس من خلفه، يتوارى أمله في سقوط المطر.
قارب الشتاء على نهايته ولم تبتل الأرض إلا من صقيع وثلوج تلتهم مرعي أغنامه. حتى القناة التي تروى أرضه خويت من الماء إلا من بعض يسير يكفي بالكاد لشرب أغنامه.
من يسبقوه على ضفافها أقاموا السدود ليستأثروا بمائها.
عبسا حاول مداهنتهم، أو شكواهم، بعد أن عجز عن الدفاع عن حقه في المياه. فقد وهنت قوته وعصفت بها سنوات العمر.
حمارته الكسلى تبطئ من سيرها، تميل إلى تلك القناة لتلتهم بعض الأعشاب النامية على حافتها، أو تلتقط بعضا من أعواد الحطب المتناثرة على جانبي الطريق. يلكزها بضرب بطنها باهتزاز رجليه ليلحق بالقطيع.
يتقدمه أبناءه، كل منهم يركب حمارا قويا. يخلفهم عددا من الكباش يشغلون الصف الأول من قطيع الأغنام وحملانها. الذي ينتهي بمجموعة صغيرة من الماعز.
على جانبي الطريق تسير مجموعة من الكلاب، موازية للقطيع؛ كل منها يسير في خطه المرسوم، لا يحيد عنه؛ إلا إذا شرد أحد أفراد القطيع.
فنجد الكلب القريب منها يجرى مسرعا لإعادته إلى خط سيره المرسوم.
طريق طويل يسيرونه يوميًا، يبدأ من مشرق الشمس. متجها إلى تلك الرقعة من الأرض التي آلت إليه بوضع اليد. لم يرثها لكنه وجد أناس يستصلحون أرضا ويزرعونها فأتى بعدهم
واستصلح تلك القطعة لتكون مرعى لأغنامه، وتنتهي بصحراء قاحلة لا تصلها الماء.
ها قد وصل إلى أرضه..
يسرع كل من في القطيع قافزا القناة إلى تلك الأرض ليبحث عن قوت لن يجده في أرض أصابها الجدب، يسرع ابنه الأكبر ليقف بجواره ليستند على كتفه نازلا من فوق حمارته التي تتجه سريعا إلى المرعى.
يجلس متكئا إلى شجرة الصفصاف الوحيدة على هذه القناة. يمد يده داخل سلته، تتعثر في مغزله، يخرجه، يقلبه بين يديه ينظر إليه، ويتذكر كم كان يحبه، ينتظر الصباح حتى يحتضنه بيده. يقوم بلف أسفله في خفة وسرعة ليغزل كمية من الصوف قد أتى بها من قص إحدى أغنامه.
ينظر إليه وقد تكسرت زوائده العليا وتهشمت مقدمته. يزم شفتيه امتعاضا ويعيده إلى السلة في أسى.
يخرج نرجيلته وأدوات عمل الشاي.
ابنه يصعد الشجرة يعلق السلة في فرع جاف، ويأتي ببعض الأخشاب، يقوم هو برصها جيدا على شكل هرم صغير تتوسطه بعض الأعشاب. يشعل فيها عود ثقاب. يرتفع اللهب يمد ذراعيه باسطا كفيه حول اللهب وكأنه سيحتضنه، وتبدو على وجهه السكينة.
تعلو وجهه ابتسامة بلهاء كلما زاد ارتفاع اللهب.
ملأ قنينة الشاي وضغط بها على قطع الأخشاب الملتهبة ليهدئ من روعها، ويهدئ من سيل الذكريات التي تهاجمه.
يلتقط قطع مشتعلة من النار ليضمها فوق نرجيلته، ويتراجع إلى الوراء مستندا إلى جزع تلك الشجرة الهزيلة ساحبا نفسا عميقا من الدخان، ثم يرفع رأسه نافثا دخان كثيف في اتجاه مرعاه وأغنامه.
من بين غلائل الدخان يتابع القطيع.
الحمير كل يستأثر بجزء من الحشائش النامية على القناة وكأنهم قسموها على بعضهم. كلما اقتربت نعجة أو حمل صغير من مرعاه أخرج زفيرا مرعبا في وجهها. وإن اقتربت أكثر استدار ورفسها بأرجل قوية. فتتراجع النعاج لتجوب أرض جرداء. بحثا عن غذاء لا تجده.
هزلت النعاج، أصابها الجرب، سقط بعض صوفها، أنهكها الجوع.. تهرول مبتعدة عن حملانها الصغيرة، ترفسها لو اقتربت من ضروعها الجافة اليابسة؛ هاله المنظر، رغم تكراره يوميا، لكن قلة حيلته دعته إلى النظر إلى بعيد، إلى الأبناء، يتسابقون بأقوى الحمير في الصحراء.
يحاول القيام مستندا إلى جزع الشجرة، يناديهم بصوت واهن، لا يسمعون، تخنقه العبرات، تتحجر في عينيه الدموع.. أيصل به الحال إلى هذا الحد الذي لا يقوى على القيام؟
قديما كانت أرضه يانعة خضراء، كانت أغنامه شبعا، لم يكن يجرؤ أحدا على قطع المياه عن أرضه.. كانت زراعاته وأغنامه مضرب المثل، حتى شجرته هذه كانت وفيرة الظل.
يلوم نفسه على تدليله لأبنائه، وعدم تحميلهم المسؤولية، وتركهم للعبهم ولهوهم؛ استسلم لضعفه، وركن إلى جزع الشجرة، ينفث مع دخان نرجيلته آلَامه وهوانه، ناظرا إلى السماء علها تأتى بسحابة ممطرة تغسل همومه وتروى الأرض العطشى.
تناقص ظل الشجرة حتى صار يغطى جزعها فقط.
جاء كلبه الكبير ليرقد على مقربة منه باسطا ذراعاه، فقد حان وقت الغذاء، يمد عصاه لينزل سلته، يضعها أمامه، يجمع بعصاه جمرات النار، وينتظر وصول الأبناء.
حمل صغير يقفز القناة يقترب منه، يدور حوله يقترب من جزع الشجرة، يحاول نحت لحائها، يبحث عن أوراق يابسة تكون قد سقطت من الشجرة ولم يسبقه إليها أحد من أقرانه.. باءت محاولاته بالفشل.. يقترب من السلة، يدس رأسه داخلها، يحاول الراعي أبعداه بعصاه، يكشر الكلب عن أنيابه.. لا يأبه الحمل لا بالراعي ولا بالكلب. فلكز العصا أخف وطء من لمز معدة خاوية، وزمجرة الكلب أهدأ من زمجرة أمعاء تكاد تعوي من أثر الجوع.
يأتي حمل آخر يشاركه، تتوافد الحملان على السلة، يعقبهم باقي القطيع مسرعين… يحيطون بالراعي وسلته.
لم تفلح محولات الكلب ولا باقي الكلاب الذين أتوا مسرعين للنجدة في إبعادهم، لم يعد نباحهم يخيف النعاج الجوعى.
تعلو أصوات الحملان؛ تتحول إلى زئير، تتراجع الكلاب.. تنسحب.
يحتضن الراعي سلته، يقاوم السيل المنهمر من الحملان، بلا جدوى.
تدوسه الأرجل، تنغرس الحوافر في وجهه، في جسده، يسيل دمه.
تخونه قواه.. يترك سلته للقطيع.
تبدو ذراعه مرفوعة بين النعاج، يهبط الأبناء من فوق الحمير التي لا تأبه بما يحدث، تنطلق إلى مرعاها.
الأبناء في ذهول من هول المفاجأة، يحاولون إبعاد القطيع، يمدون أياد مرتعدة إلى اليد المرفوعة، تحول بينهم الحملان، وتسقط اليد..
يتحول القطيع إلى قطعان صغيرة يتقاتلون على سلة فارغة يتجاذبونها فيما بينهم، كل قطيع يحاول الاستئثار بها لنفسه.
يجلس الأبناء حول الراعي، يحاولون تضميد الجراح الغائرة.
قدمنا لكم قصة ثورة الحملان؛ كتبها لكُم: عبد الحميد ناصف – مصر.
اترك تعليقاً