صوم رمضان ودرس إدارة الشهوات

صورة , شهر رمضان , رمضان مبارك

يقول القائل عن رمضان وفضل الصيام:
عامٌ مَضَى مِن عُمْرِنا في غفْلةٍ
فَتَنَبَّهوا فالعُمْرُ ظلُّ سَحابِ
وَتَهيّؤوا لِتَصَبُّرٍ ومشقَّةٍ
فَأجورُ من صَبَروا بِغيرِ حِسابِ
اللهُ يَجزي الصّائِمينَ لِأنّهم
مِنْ أَجلِهِ سَخِروا بِكلِ صِعابِ

فنسأل الله العظيم الكريم أن يبلغنا رمضان ويعيننا على صومه لننال رحمة الله وعفوه ونكون بإذنه من الفائزين، أما بعد: فإن في الصوم مشقة لا ينكرها أحد، وفي الامتناع عن شهوتين من مركبات الفطرة البشرية واحتياجاتها الأساسية صعوبة ومجاهدة لا يقوى عليها إلا من مللك زمام نفسه وأمسك بلجام شهواته وانتصر لأمر الله وأثر هواه على هوى نفسه ومتطلباتها.

لم يشرع الصوم للمشقة

لم يشرع الله الصيام ويطالب به عباده من المؤمنين والموحدين بقصد المشقة والتعسير عليهم، ولا التعنت معهم ولا مطالبتهم بما لا يطيقون فالله عز جل لا حاجة به لتعذيب عبادة أو حرمانهم من نعمه، فهو القائل في محكم التنزيل (يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر)، وفي هذا دلالة على رحمة الله بنا ولطفه بعباده والتخفيف عنهم، فإذا كان هذا اليقين بداخل كل مسلم ثابت وراسخ لا يتسرب إليه الشك إذن لم شرع الصوم؟ وما الحكمة في تلك المشقة المتحققة فيه والتي لا تخفى على أحد؟

إن الله عز وجل إنما فرض الصيام على المسلمين شهرًا واحدًا من كل عام لتحقيق مقاصد وغايات سامية وغرس قيم نبيلة، تهدف جميعها إلى تربية عبد رباني مخلص لله، يأخذ الكتاب والأوامر والنواهي بقوة، ويقدم لنفسه ما ينفعه عند الوقوف بين يدي العزيز الحكيم، ولأن مقاصد الصوم أكثر وأكبر من يحيطها موضوع واحد فليكن حديثنا عن مقصد من أروع وأهم المقاصد وهو تعليم المسلم عمليًا درس إدارة الشهوات وقيادة الرغبات.

كيف يتعلم المسلم إدارة شهواته بالصوم

المسلم العاقل الفطن يمكنه إدارة شهواته وترتيب أولياته، فهو بحاجة إلى الأكل والشرب والاستمتاع بما أحل له من الطيبات، وهو بحاجة أيضا إلى تحصيل الثواب والأجر الذي يدخره ليوم الحساب، وهو في حاجة إلى ما ينقذه من غضب الله ومن يلات يوم القيامة، وهو بمنتهى البساطة يحتاج إلى تحقيق كل ذلك لذا يصبح بين خيارين لا ثالث لهما، أولهما: أن يطيع رغباته ويختار الحل الأسهل ويسمح لنفسه بالاستمتاع بما لذ وطاب من متع مباحات، ويترك الصيام ومشقته وما يعنيه من الحرمان العطش والجوع،، ويستعد لتبعات اختياره، حساب عسير وعذاب غير يسير، وندم لا حدود له ولا جدوى منه، ويكون ممن قال الله فيهم: (فَأَمَّا مَن طَغَىٰ (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ (39).

أما الخيار الثاني فهو أن يخضع لأوامر الله ويقبل أن يعاني بعض الحرمان والجوع والعطش، ويؤجل رغباته قليلًا، للحظات محققة، حيث ساعة الفطر التي تمسح عن نفسه كل ما وجده من التعب والمشقة بمجرد سماع آذان المغرب، ليكون بذلك ضمن القائمين على حدود الله الحافظين لحرمة شهره الكريم، الذين يجيدون ترتيب أولوياتهم ويتقنون فن المساومة على الفوز بنعيم الدنيا والآخرة معًا، فبقليل من المشقة ينالون الأجر العظيم، في حال أن غيرهم قد اشترى قليل من المتعة المؤقتة بحساب أليم وطويل، ويدخلون تحت قول الله عز جل: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ (41).

فالصيام هو درس ترتيب الأولويات ومعرفة قيم الأشياء وتقديرها حق قدرها، وهو درس قيادة النفس والسيطرة عليها، فحين تحرم النفس من المباحات والتي قد تكون زاهدة فيها ابتداءً تزين لصاحبها تلك المباحات وكأنها درب من اللذة الخيالية والمتعة الأبدية، فمن منا لم يمر بتلك اللحظات وحين تقع عينه على شربة ماء وهو صائم يشعر أن تلك الشربة من الماء هي الدنيا وما فيها، وحين يفطر قد لا يتذكر أصلا أنه بحاجة إلى الشرب، وهذه سياسة النفس البشرية الضعيفة تزين لصاحبها ما لا يحل له، وحين تزل القدم ويصبح ما تمناه بين يديه يصيبه الزهد فيه وتختفي تلك الهالة التي كادت تذهب ببصره ولبه، ويحل محلها الندم والحسرة على التفريط في جنب الله واتباع الشهوة والسير وراء نداءها الخداع.

وختامًا: الصوم دربة للنفس وترويض لها يرتقي بها إلى مقام الناجين، وكفى بها نعمة.

أضف تعليق

error: