بعد أكثر من ١٤٠٠ عام.. مازلنا نستخرج عظيم الدروس والعبر من الهجرة النبوية

نعم؛ ونحن نكتب هذا المقال الآن، وبعد أكثر من ١٤٠٠ عام على الهجرة النبوية الشريفة. مازلنا نستخرج عظيم الدروس والعبر والعِظات.

المهاجرين والأنصار زمن الهجرة.. والآن

كان العمل لإنجاح الهجرة صِنو الأمل، لقد فعل المهاجرون والأنصار -كلاهما- أفضل ما يليق به. فقد ترك المهاجرون أوطانهم، وأموالهم، وتحملوا مسئولية الاغتراب، ولم يكن أجمل من المهاجرين في تضحياتهم إلا الأنصار في إيثارهم، والذين جعلوا من قلوبهم وطنا ومن أموالهم قِسمة.

وذلك ما يشير إليه قوله ﷻ ﴿لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ | وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.

وما أحْوَج المسلمين اليوم إلى أن يكونوا على قلب رجلٍ واحد، فيقفوا إلى جانب إخوانهم المضطهدين، على مستوى الكرة الأرضية. فهناك من يهاجرون الآن من أوطانهم، فمن لهؤلاء المهاجرين؟ أين الأنصار الذين يجددون قيمة الإيثار التي كانت حقيقة تفرض نفسها قبل ذلك؟

إن الأنصار أحبوا المهاجرين الذين وفدوا إليهم، وقد أعطوهم كل ما يملكون. ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إنهم لم يجدوا في صدورهم حاجة مما أوتوا.

تجد هنا أيضًا: محاضرة عن الهجرة النبوية

أهمية الهجرة النبوية

يقول الله ﷻ في سورة الأنفال -أعوذ بالله من الشيطان الرجيم- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ | وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾.

في الآية الأولى وعدٌ من الحق ﷻ بنصر أوليائه نفسيا برؤية الحق حقا والباطل باطلا، ثم بتكفير السيئات وغُفران الذنوب من لدن صاحب الفضل العظيم ﷻ، والذي يعدهم بهذا الفضل للفوز في كل المعارك.

ثم جاءت هذه الآية كمعرض من معارض الفضل العظيم من واهبه ﷻ عندما مكر الماكرين خير الماكرين ﷻ.

ولاحظ؛ في الدلالة على أهمية الهجرة؛ أنه في أعقاب الحديث في سورة الأنفال عن غزوة بدر جاء بقوله ﷻ ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ كمثال على نصر الله والفتح لأوليائه.

ثم لاحظ في غزوة تبوك أن الهجرة جاءت أيضًا ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾ بعد الحديث عن غزوة تبوك، مما يؤكد أن حادث الهجرة، وإن لم تُرق فيه قطرة دم واحدة، إلا أنه كان دليلا على تدبير الله ﷻ وقدرته. بدليل أنه جاء به في معرض الحديث عن غزوة تبوك، وهنا في معرض الحديث عن غزوة بدر.

واقرأ هنا عن: المجتمع الإسلامي في مكة قبل الهجرة النبوية

لكن.. كيف تم إحباط مكر القوم؟

ذلك هو ما نفصله فيما يأتي.

تقول كتب السيرة أن الملأ من قريش اجتمعوا في دار الندوة لاتخاذ قرار حاسم بشأن محمد ﷺ، وإذا هُم بشيخ جليل لدى الباب فسألوه: من أنت؟ قال: شيخ من نجد؛ سمعت بما تعدتم عليه فحضرت لأسمع ما تقولون، وعسى ألا تعدموا من رأيا ونصحا.

وعلى مرأى ومسمعٍ من الشيخ، قال بعضهم بشأن محمد ﷺ: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ريب المنون كإخوة له من قبل.

وهنا قال الشيخ الضيف -وهو إبليس الملعون-: لا والله، ما هذا لكم برأي.

وعلل رفضه بما يعلمه من شعبيته ﷺ، التي سوف تُعلن عن نفسها من خلال رجاله، الذين سوف يحطمون القيود وينتزعونه منكم، فانظروا غير هذا الرأي.

فقال آخرون: نُخرجه من ديارنا، فإذا خرج عنا فوالله ما نبالي أين خرج.

فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم بالرأي. ألم تروا حُسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على عقول الرجال بما يأتي به؟ دبروا فيه أمرا غير هذا.

أما أبو جهل -فرعون هذه الأمة- فقد تولى كِبر اقتراح قتله، الذي راق إبليس، فصفق للفكرة التي جاء من أجلها؛ لكنه لم يُفصح عنها حتى لا ينكشف أمره. وفعلا قرروا قتله.

ولكن الحق ﷻ أعلمه بما دبر القوم، وقرر الهجرة، وأمر المسلمين بها، وخيّب الله مسعى الكافرين، وانتصر المكر الخيّر على المكر السيئ.

وعلى هذا الانتصار مزيد من سخرية لاذعة، تمثلت في حسبانهم عليًّا نائمًا على فراش الرسول ﷺ، ظنوا أنه الرسول ﷺ.

﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾.

واقرأ هنا أيضًا عن: أوجه التشابه والاختلاف بين الهجرة النبوية ورحلتي الإسراء والمعراج

تضحيات الصحابة في الهجرة

ومن مكر الله ﷻ ما أمَدّ به المؤمنين من عزيمة لم تساوم على كرامتها، ومن هؤلاء الثابتين المضحين: صهيب. لقد لَحِق المعتدون به، فلما اقترح عليهم أن يترك لهم ماله، قبلوا الاقتراح، بل وفرحوا بما أوتوا. وكان فرح صهيب أعمق وأوسع.

لقد فاز بالمبادئ، بينما رجع التافهون بالمبالغ، ويا للهمة ترمي بصاحبها إلى بعيد.

ثم يعلن سعد بن الربيع عن تنازله.. عن ماله؟ هذا ممكن. عن داره؟ هذا محتمل. لكن الذي لا يُحتمل أن يعلن عن تطليق زوجته لتكون زوجا لصاحبه لو أراد، وهكذا كم يكلف الإيمان أهله! وإنهم لراضون، بل سعداء بما يدفعون.

ثم ماذا عن الذين جاءوا من بعدهم؛ بعد الحديث عن المهاجرين والأنصار، في الآيتين؟ ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾.

لقد أدى المهاجرون دورهم، فهاجروا. وقام الأنصار بواجبهم، فآثروا. وبقي علينا -على الذين جاءوا من بعدهم- أن يسيروا على نفس الدرب، وفاءً ودُعاءً وحُبا لهم.

ومن أنبل صور الحب أن نحب مبادئهم، وأن يظل عملهم العظيم حيًّا في ضمائرنا دروسا يصلح بها الله ﷻ ما أبلت الايام من عزائمنا، وإنا لفاعلون إن شاء الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error:
Scroll to Top