خطبة: «لا نفرق بين أحد من رسله».. ما الذي تسوقه الآية من رسائِل وعِظات وإرشادات!

خطبة: «لا نفرق بين أحد من رسله».. ما الذي تسوقه الآية من رسائِل وعِظات وإرشادات!

وفي قول ربنا ﷻ ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾ يدور محتوى هذه الخطبة المنبريَّة لهذا الأسبوع. نعم، أعتقد أنك أصبَحت على أتَم الاستعداد للاطلاع على خطبتنا اليوم؛ فما رأيك أن ترى وتقرأ ما لدينا، ثُم تُعطينا رأيك في عنوان الخطبة ومحتواها!

مقدمة الخطبة

الحمد لله الحي القيّوم ﷻ الذي خلق الخلق ليعبدوه، وأسبغ عليهم من فيض نعمه ظاهرةً وباطنةً ليشكروه، وبيَّن لهم ﷻ طريق الحق والخير ليسلكوه، وحذرهم طريق الباطل والشر والضلال ليجتنبوه.

وأُصلي وأُسلم على المختار رحمة للعالمين، مُبشرًا ونذيرًا للخلائِق أجمعين. اللهم صَلّ عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

الخطبة الأولى

إن من رحمة الله ﷻ بالعباد إرساله الرسل والانبياء عليهم الصلاة والسلام، لدعوة الناس الى عبادة الله وحده، وتحذيرهم من عبادة ما سواه، وحثهم على كل ما يصلح أحوالهم، وقد جعل الإسلام الإيمان بالرسل أحد أركان الإيمان، قال ﷻ: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير﴾ [سورة البقرة: 285].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ، إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ يَمْشِي فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: «الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَلِقَائِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الْآخِرِ» ~ متفق عليه.

ولا ريب أن الإيمان برسل الله عليهم السلام هو التصديق الجازم بأن الله ﷻ أرسل رسلاً واختار أنبياء لا يعلم عددهم إلا الله، فمنهم من بيَّن الله أسماءهم وقصَّ علينا أخبارهم في القرآن وعددهم خمسة وعشرون، ذُكروا بأسمائهم فنؤمن بهؤلاء جميعًا، وبما جاء من أخبارهم وقصصهم، ومنهم من لم نعلم أسماءهم، ولم يقص الله علينا خبرهم، فنؤمن بهم إجمالاً تصديقًا لخبر الله عنهم، قال الله ﷻ: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ غافر: 78.

وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، كم المرسلون؟ قال: «ثلاثمائة وبضعة عشر جمًّا غفيرًا»، وفي رواية: قال أبو ذر: قلت: يا رسول الله، كم وفاء عدد الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمًّا غفيرًا» رواه احمد.

وأفضل أنبياء الله ورسله الخمسة الذين وصفهم الله ﷻ بأولي العزم من الرسل، والذين ذكرهم الله في قوله ﷻ: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ الشورى: 13، وقوله ﷻ: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ الأحزاب: 7.

فنؤمن بسيدنا محمد ﷺ والإيمان به ﷺ يستلزم أن نؤمن بإخوانه من الرسل: نوح وموسى وعيسى وغيرهم من الانبياء والرسل عليهم السلام، وما صلاة رسولنا ﷺ بهم إماماً في بيت المقدس، ولقاؤه ببعضهم في السموات ليلة المعراج، إلا دليل على أن الرسل كلهم من مشكاة واحدة، وأن سيدنا محمد ﷺ هو النبي الخاتم الذي لا نبي بعده وأن رسالته خاتمة الرسالات وأنه سيد الأنبياء والمرسلين، قال ﷺ: «مَثَلي ومَثَلُ الأنْبِياءِ مِن قَبْلي كمَثَلِ رَجُلٍ ابْتَنى بُنْيانًا فأحسَنَه وأكمَلَه، إلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِن زاوِيَةٍ مِن زواياه، فجعَلَ النَّاسُ يَطيفون به ويَعْجَبون منه، ويَقولون: ما رأَيْنا بُنيانًا أَحسَنَ مِن هذا، إلَّا مَوضِعَ هذه اللَّبِنَةِ، فكُنتُ أنا تِلْك اللَّبِنَة» ~ صحيح مسلم.

ولله در الإمام البوصيري حين قال:

فاقَ النبيينَ في خلْقٍ وفي خُلُقٍ
ولمْ يدانوهُ في علمٍ ولا كَرَمِ

وكلهمْ من رسول اللهِ ملتمسٌ
غَرْفًا مِنَ البَحْرِ أوْ رَشْفًا مِنَ الدِّيَمِ

كما نؤمن إيماناً جازماً بأن جميع الرسل عليهم السلام تلقوا الإيمان من أمين السماء جبريل -عليه السلام-، قال الله ﷻ: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير﴾ [البقرة:285]، وهنا عطفت الآية إيمان المؤمنين على إيمان رسول الله ﷺ، ثم ذكرت بعض أركان الإيمان، بدأت بالإيمان بالله الخالق ﷻ وعطفت الإيمان بالملائكة الواسطة بين الخالق ورسله، وعطفت الكتب التي تحملها الملائكة إلى الرسل، بترتيب يأخذ بمجامع القلوب، ولتعدد الرسل عليهم السلام ختمت الآية بقوله ﷻ ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾ والجمع بنون الجمع ﴿لَا نُفَرِّقُ﴾ دليل أن هذا هو الاعتقاد الصحيح عند المؤمنين.

إن الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام يقضي أن لا نفرق بين أحد منهم، فكلهم عليهم السلام جاؤوا بدعوة واحدة يدعون إلى دين واحد ويعبدون ربّاً واحداً، فمن كذّب واحداً منهم فقد كذّب جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولذلك قال الله ﷻ في قوم نوح -عليه السلام-: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء: 105]، ولم يكن نوح إلا رسول واحد، وفي هذا الآية الكريمة رسالة إلى كل أتباع الديانات أن لا يكذبوا أحداً من الرسل، وإيمانهم برسولهم يقتضي أن يؤمنوا بجميع الرسل فكلهم إخوة في دين الله ﷻ، فالوئام بين الجميع مطلب شرعي وعقلي لا يخرج عنه العقلاء من الناس.

والحق أنه لولا الرسلُ عليهم الصلاة والسلام ما اهتدى أحد من الخلق إلى الحق، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم أصفياء الله ﷻ وقد أضافهم الله ﷻ إلى نفسه تكريماً وتعظيماً لهم عليهم السلام من آدم -عليه السلام- أب البشر حتى سيدنا محمد ﷺ سيد البشر، حيث قال الله ﷻ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ [النساء: 152].

وقد أمر الله ﷻ نبينا ﷺ وأمرنا بالإيمان بجميع أنبيائه ورسله، قال ﷻ: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران: 84.

إن العالم بما فيه من تناقضات يجب أن يعود إلى التوافق في ضوء دعوة الرسل عليهم السلام، ولا ريب أن دين الإسلام يتميز على كل الملل والنحل بأنه دين لا يقبل بإقصاء المخالفين له، بل يقبل الإسلام وجودهم كجزء لا يتجزأ من المجتمع الإسلامي، وعندئذ يعيش الناس في حياة آمنة، تسودها المحبة والوئام، لأن المحبة هي رأس مال المجتمع المسلم، وأجمل صُوَره تلك التي تُنْبِئُ عن الوئام والتلاقي بين أفراده، إنها تلك العلاقة المنشودة في مجتمعاتنا في ظلال هذا الدِّين الذي يأمرنا بها، ويُحذِّرنا من التباغض والتنافر، ذلك التنافر الذي يؤدي الى التباغض والتدابر والتحاسد، مما يوغر الصدور ويزرع بذور الفتن بين أبناء المجتمع الواحد؛ فيخلق مجتمعاً تسوده الفوضى والخلاف، وهذا مما لا يقبله ديننا الحنيف الذي جاء بالألفة والاجتماع، ولا يقبله رسولنا ﷺ.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران: 102.

ولا تنسوا قول النبي ﷺ: من قال: «سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة، حُطَّتْ خطاياه وإن كانت مثل زَبَد البحر».

ومن قال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكُتِبَتْ له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي».

ومن قال: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ﴾، «أيما مسلم دعا بها في مرضه أربعين مرة فمات في مرضه ذلك أعطي أجر شهيد، وإن برأ برأ وقد غفر له جميع ذنوبه».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error:
Scroll to Top