خطبة مكتوبة عن الغضب وعلاجه

خطبة مكتوبة عن الغضب وعلاجه

نعم؛ هي خطبة مكتوبة عن الغضب وعلاجه. وقد أفردنا الحديث في هذا الموضوع في خُطبة جمعة سابقة -سنضع رابطها لكُم خلال هذه الصفحة- ونستمر في الطَّرح الطيّب لما ينفع الناس في دنياهم؛ وبالتالي آخرتَهُم.

عناصر الخطبة

  1. الإسلام دين الأخلاق الحسنة، ودين الرحمة والرفق.
  2. الغضب من الأخلاق الذميمة التي نهى الإسلام عنها، وهو جماع الشر كلّه.
  3. من الهدي النبوي الشريف في علاج غريزة الغضب.
  4. خطورة الغضب وأثره السلبي على الإنسان صحياً ودينياً واجتماعياً.

الخطبة الأولى

الحمد لله..

إنّ الأخلاق الحسنة هي قوام المعاملة بين الناس، وهي الثمرةُ العملية التي تعبر عن الاعتقاد الصحيح والفكر القويم، فلا يتمّ العقل والعمل إلا بالخلق الحسن، ولذلك وصف الله ﷻ نبيه عليه الصلاة والسلام بالخلق العظيم، قال الله ﷻ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

وإنّ رأس الأخلاق الحِلْم والرفق، ورأس المخالفة الغضب، ولهذا حذرنا النبي ﷺ من الغضب، روى البخاري –رضي الله عنه– في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنّ رجلاً قال للنبي ﷺ أوصني، قال: «لا تغضب»، فردَّد مراراً، قال: «لا تغضب»، كرَّرها النبي ﷺ ثلاثاً لعلمه ﷺ بالأثر السيّئ والعاقبة الوخيمة التي يتركها الغضب، لذلك قال الرجل: ففكَّرتُ حينما قال لي النبي ﷺ ما قال، فإذا الغضب يجمع الشرَّ كله.

عباد الله، إنَّ الله ﷻ أمر بتطهير النُّفوس من نَّزعات الجاهلية التي عرفها الناس، والتي ألِفوها قبل الإسلام، ومن أهم نزعات الجاهلية التي جاء الإسلام ليعالجها الغضب الذي يؤدي إلى وقوع صاحبه بالإثم والمعصية، فيسود منطق الجهل والعصبية بدلاً من منطق الحكمة والموعظة الحسنة وإدارة الأمور بالشكل الصحيح، وقد كان العرب قبل الإسلام يفتخرون بالانتقام من الآخرين إذا غضبوا عليهم، فيتسلطون على الضعيف وتشتعل بين القبائل الحروب الضارية التي تستمر عشرات الأعوام بسبب فورة عابرة من الغضب؛ ولا شيء أكثر دلالة على ذلك من قول قائلهم:

ألا لا يجهلن أحدٌ علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينَا

عباد الله: جاء الإسلام ليقيم أركان المجتمع على أساس قويم، وهذا أمرٌ لن يتحقق إلا إذا هيمن على الإنسان العقل الرشيد، والرأي السديد، الذي يمنع غريزة الغضب من السيطرة عليه، والتحكم بانفعالاته، إذ لو سيطر الغضب عليه لجعله يقع في ما لا يحمد عقباه، قال الراغب الأصفهاني، “النفس إذا اشتعلت غضبًا عميت عن الرشد، وصمَّت عن الموعظة، فتصير مواعظه مادة لغضبه، ولهذا حُكي عن إبليس لعنه الله، أنه يقول: متى أعجزني ابن آدم فلن يعجزني إذا غضب؛ لأنَّه ينقاد لي فيما أبتغيه منه، ويعمل بما أريده وأرتضيه”.

إخوة الإسلام: إنَّ الإنسان إذا وقع تحت تأثير الغضب وقع في الحال المذمومة والعواقب الوخيمة في الدنيا والآخرة، فالغضب له أسوأ الأثر على دين الإنسان وعلى دنياه؛ أمَّا أثر الغضب السيئ على دين الإنسان، فإنَّه قد يحمل المسلم على التلفظ بكلمات محرمة وقد تصل إلى ألفاظ الطلاق والتحريم وغير ذلك، أو أن يقدح إنساناً أو يقذفه أو يذمّه، فيقع لا محالة في الذنب والإثم، ورد عن سلمان بن صُرد –رضي الله عنه– قال: اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، فَجَعَلَ أَحَدُهُمَا تَحْمَرُّ عَيْنَاهُ وَتَنْتَفِخُ أَوْدَاجُهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَهَلْ تَرَى بِي مِنْ جُنُونٍ؟، قال في حضرة النبي ﷺ كلمة تضعه في مكان ضيقٍ، وباء بأسوأ ذنبٍ وأقبح إثمٍ، إذ لم يرفع صوته فوق صوت النبي ﷺ وحسب، بل رد على النبي ﷺ، والله ﷻ يقول لنا في كتابه العزيز: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾، فكان الغضب سبباً في إحباط عمله.

وأمَّا أثر الغضب على دنيا الإنسان؛ فكم من غضبٍ لم يملك فيه المرء نفسه، ففعل جرماً يُعاقب بسببه أسوأ العقاب، كم من إنسانٍ غضب غضباً لم يتمالك فيه نفسه فطلَّق زوجته، كم من إنسانٍ غضب غضباً لم يملك فيه نفسه فضرب أولاده وأهله، كم من إنسانٍ غضب غضباً لم يملك فيه نفسه فهدمت علاقته مع جيرانه أو إخوانه أو أخواته، لتحلَّ قطيعة تحتاج إلى سنوات حتى تُرفع، وكم من إنسان غضب على غيره فأدى ذلك إلى الاعتداء على الآخرين وربما وصل الأمر إلى القتل وسفك الدماء المعصومة، فيقع بذلك في الإثم العظيم والخسران المبين.

إخوة الإسلام: لقد شرع لنا النبي ﷺ مجموعةً من الخطوات التي تؤدي إلى علاج الغضب، ولا بدّ للمسلم العاقل الحصيف الأخذ بها حينما يقع تحت تأثيره، حتى لا يقع فيما لا تحمد عقباه، وهذه الخطوات هي:

أولها: أن يكظم المسلم غيظه، ويحبس غضبه، وإن كان قادراً على إنفاذه؛ لأنَّ الله ﷻ وعد من كظم غيظه بجنة عرضها السماوات والأرض، قال ﷻ: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين﴾، وقال ﷻ: “وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ” وأن يملأ الله ﷻ قلبه رضىً يوم القيامة، فلقد روى أبو داوود في سننه عن سهل بن معاذ –رضي الله عنه– قال: قال ﷺ: «من كظم غيظاً وهو قادر على إنفاذه دعاه الله ﷻ على رؤوس الخلائق يخيّره من أي الحور شاء».

وعن ابن عمر؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا مِنْ جُرْعَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ، مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا عَبْدٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ».

فإن لم تفلح هذه الطريقة انطلق إلى غيرها وهي: أن يكثر المسلم من ذكر الله ﷻ، والاستعاذة من الشيطان الرجيم، ويتأمل أن الله ﷻ قادرٌ عليه، قال ﷻ: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا﴾، قال عكرمة في معرض التفسير لهذه الآية: (أي اذكر ربك إذا غضبت) وَقَالَ وَهْبٌ، مَكْتُوبٌ فِي الْإِنْجِيلِ، ابْنَ آدَمَ اذْكُرْنِي حِينَ تَغْضَبُ أَذْكُرُكَ حِينَ أَغْضَبُ.

وقول النبي ﷺ للرجل حين رآه غاضباً: «إِنِّي لَأَعْرِفُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ».

ويُسنّ كذلك لمن اشتعل نار غضبه أن يطفئه بالوضوء، فقد روى أبو داوود في سننه عن أبي وائل القاص –رضي الله عنه– قال: دخلنا على عروة بن محمد بن السعدي –رضي الله عنه– فكلمه رجل فأغضبه، فقام فتوضأ ثم رجع وقد توضأ، فقال حدثني أبى عن جدي عطية قال، قال رسول الله ﷺ، «إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ».

وإن لم تفعل فغيِّر الحال الذي أنت عليه، فعن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس؛ فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع».

عباد الله: لقد ضرب لنا رسول الله ﷺ وأصحابه من بعده – وهم بشرٌ مثلنا، يأخذهم ما يأخذنا من الغضب– أروع الأمثلة في كبح جماح النفس، وعدم استحكام الشيطان على غريزة الغضب؛ يقول أنس رضي الله عنه: كنت أمشي مع رسول الله ﷺ وعليه بُرد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذةً شديدة، فنظرت إلى صفحة عنق رسول الله ﷺ وقد أثَّر فيها حاشية الرداء من شدة جبذته ثم قال: يا محمد: مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء.

وها هو أبو بكر الصديق –رضي الله عنه– يأتيه رجلٌ يقول له: والله لأسبنَّك سبَّاً يدخل معك إلى القبر، فنظر إليه أبو بكر –رضي الله عنه– وقال له بنفس الواثق بالله المؤمن به، يدخل معك لا معي.

شَتم رجلٌ أبا ذَرٍّ رضي الله عنه فقال: “يا هذا، لا تُغرق في شَتمنا ودَع للصُّلح مَوضعاً، فإنَّا لا نكافئ مَن عصى الله فينا بأكثر مِن أن نُطيع الله فيه”.

لذلك فإن الرجولة لا تكون في شدَّة الغضب وسرعته، بل هي في أن يملك المسلم نفسه عند الغضب؛ روى الشيخان في صحيحهما عن أبي هريرة –رضي الله عنه– قال: قال ﷺ: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب».

وقديما قالوا:

ولم أرَ فضلًا تمَّ إلا بشيمةٍ
ولم أرَ في الأعداءِ حين اختبرتهم

ولم أرَ عقلًا صحَّ إلا على الأدبِ
عدوًّا لعقلِ المرءِ أعدَى مِن الغَضَبِ

وهذه أيضًا خطبة: الغضب وآثاره السلبية على الفرد والمجتمع

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

فلا بدَّ أن نعلم –أيها الأحبة– أنَّ من موجبات كمال الدين وصدق الإيمان أن يغضب المسلم لمحارم الله – فيما لو انتهكت – فكان رسول الله ﷺ يغضب لذلك غضباً شديداً، ويعاقب بما أمر به الله دون ظلم أو إجحاف؛ فعن عائشة –رضي الله عنها– قالت: «ما ضَرب رسول الله ﷺ شيئاً قَطّ بيده، ولا امرأة ولا خادماً، إلاّ أن يُجاهد في سبيل الله، وما نِيْلَ منه شيءٌ قَطّ فينتقم من صاحبه، إلاّ أن ينتهكَ شيئاً من محارم الله، فينتقم لله عزّ وجلّ».

إذاً الغضب نوعان:

  1. غضب لمحارم الله ﷻ إذا انتهكت وهذا غضب محمود وصاحبه مأجور.
  2. وأما الغضب انتصاراً لشهوة النفس والانتقام فهذا غضب مذموم وصاحبه مأزور.

والحمد لله ربّ العالمين..

خُطَب مُختارة.. لَك

ولدي أيضًا المزيد من الخُطَب متعددة الأهداف والأغراض، والمواضيع؛ ومنها:

وفقني الله وإياكُم لكُل خَير..

أضف تعليق

error: