خطبة: الوطنية بين الحقيقة والادِّعاء – مكتوبة كاملة + PDF

خطبة الجمعة القادمة , الوطنية بين الحقيقة والادِّعاء

الوطنية بين الحقيقة والادِّعاء.. عنوان مُلفِت وشيّق؛ أليس كذلك؟ حسنًا، إنه عنوان خطبة الجمعة القادمة الذي سيكون جهدنا في الإعداد والتحضير لها. ومِن خلال نظرتنا للوهلة الأولى لهذا العنوان، نعرِف —غالبًا— ما سيُساق لنا من خلال فقرات وأجزاء هذه الخطبة المُبارَكة.

نعم، سينصَبّ الحديث حول حُب الوطن وعن مفهوم الوطنية بين الحقيقة والادِّعاء. وهذا ما نراه —بكل أسف— ظاهرًا جليًّا بين الكثيرين من أبناء البلد الواحد والوطن الواحِد.

الخطبة الأولى

إنَّ الحمد الله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾.

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا | يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.

أما بعد.. فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيُّها المؤمنون.. اتَّقوا الله حق التقوى، وأحسنوا فإنَّ اللهَ يحبُّ المُحسنين، وتوبوا إلى الله جميعا فإنَّكم إليه لا محالة راجعون.

الخطبة الأولى

أيها المؤمنون؛ بعض الناس يقولون: إنه لا اهتمام بالوطن في الإسلام أصلا، وإنما الاهتمام بالوطن الإسلامي الكبير، وأما الوطن الصغير فهذا أرض وتراب ولا يسوغ أن نهتم بأرض وتراب. ويقولون أيضا: إن الإسلام جاء وانتشر، ولما انتشر وصار وطنا كبيرا يجب أن نهتم بالوطن الإسلامي الكبير، لا الوطن الصغير. لكن في الحقيقة لا يمكن أن نكون مهتمين بالوطن الكبير دون أن نهتم بالصَّغير.

وهذا الفكر ولد السلبية في المشاعر بأن أنتج أفرادا لا يحبون وطنهم، ولا يحبّون عشيرتهم، ولا يحبّون دولتهم = المحبة الشرعية المثمرة.

ففي الصحيحين عن عائشة قالت: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهِيَ وَبِيئَةٌ، فَاشْتَكَىٰ أَبُو بَكْرٍ، وَاشْتَكَى بِلَالٌ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ ﷺ شَكْوَى أَصْحَابِهِ، قَالَ: «اللهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحْحْهَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدَّهَا، وَحَوِّلُ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ». فالنبي الله يدعو الله ﷻ بأن يحببه المدينة لأنها أصبحت موطنه بعد مكة، فلا يمكن أنه يكون عطاؤه فيها كاملا وهو متعلق بمكة دون المدينة.. فتحفيز الشعور مهم شرعا بأن يكون عندك في داخلك انتماء لهذا الوطن.

وعكس الانتماء العزلة الشُّعورية، وهي فكر يُطرح في بعض عقول الشباب، للتنفير من الإيجابية في المجتمع؛ كلّ حسب مطلوبه، فإن كان مطلوبه الدين غُرس فيه أن هذا مجتمع جاهلي وفاسد والناس فيهم وفيهم، وإن كان مطلوبه الرزق، فيُغرس فيه أن هذا مجتمع لا يصلح للعيش الكريم والناس فيهم وفيهم، فيقولون له بلسان الحال أو المقال: كُن شعوريًا منعزلاً، يعني لا تشعر بانتماء لهم، انتماؤك إنما هو لجماعتك الخاصة، أو لوطن آخر.

فالذي لا يحب وطنه تجده سلبيا؛ لا يشعر بالانتماء إلى أهل بلده؛ وهي قضية في غاية من الخطورة في التربية وفي البناء وفي الدعوة وفي التأثير.

قال ﷻ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾، وجاء في القرآن ذكر الأنبياء مع أقوامهم بلفظ الأخوة ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبَا﴾ [الأعراف: 65]، ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَلِحَا﴾ [الأعراف:73]، هذه الأخوة هل هي أخوة نسب؟، لا، هل هي أخوة قبيلة؟ لا، فالبلد فيه أكثر من قبيلة، ثمود قوم تجمعوا في مكان، أخوهم يعني أخوهم في وطنهم، قال ﷻ: ﴿أَخَاهُمْ﴾ ولم يقل: [إخوانه]، هو أخوهم، فهو المنتمي إليهم انتماء الأخ لإخوته.

وهذا أحد عناصر وعوامل قوة التأثير؛ فالذي يريد أن يؤثر في قوم وأن يكون منتجا مصلحا فيهم = لا بد أن يكون منهم وفيهم.

وحب الوطن يكون لأمرين:

  1. أولا: لأن الفطرة مغروس فيها حب الوطن.
  2. والآخر: لأن حب الوطن الفطري متوافق مع الشّرع.

ولهذا جاء في الحديث الذي رواه الترمذي عن ابن عبّاس، قال: قال رسول الله لمكة: «ما أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وأحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ»، فكان سبب خروجه هو إخراجهم له. ولأن حب الوطن من الفطرة جُعل في الأحكام الفقهية العقابية: حكم النفي من الأرض، وجاء حكم التغريب عن البلد.

فالنفي من الأرض كما في آية الحرابة ﴿إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ﴾ [المائدة: 33].

وفي التغريب، فعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الله، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: «أَنَّهُ أَمَرَ فِيمَنْ زَنَى، وَلَمْ يُحْصَنْ بِجَلْدِ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبِ عَامٍ» والحديث في الصحيحين. ولا يمكن لنا أن نكون مؤثرين ونحن لا نحب وطننا، فالبذل لأهل الوطن أسهل على النفس من البذل لغيرهم.

وحبُّ الوطن يكون بكف الأذى عن الجيران وعن المواطنين، وبذل الندى والمساعدة والإعانة لهم على مصالحهم، وحسن التعامل معهم في البيع والشراء والمعاملات، وحسن المعاشرة والصداقة معهم.

وتبدأ الانطلاقة الحقة بتغيير القناعات، فإذا غيّر الإنسان قناعته في بعض الأشياء صار تأثيره مختلفا، وصارت غيرته أشد، وصار حرصه أكبر. وذلك بحبّ الوطن وبمن في الوطن.

واسمعوا قول الله ﷻ أعوذ بالله من الشَّيطانِ الرَّحِيمِ: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوذَا قَالَ يَنقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنَّه هو التواب الرحيم.

هنا أيضًا خطبة عن حب الوطن — بالعناصر والآيات والأحاديث والقصص

الخطبة الثانية

الحمد الله حق حمده، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، نشهد أنَّه بلّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد، حتى أتاه اليقين، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد؛ فأوصيكم عباد الله بتقوى الله، فهي وصية ربكم للأولين والآخرين.

عباد الله؛ بعد أن عرضنا التأصيل الشرعي لحبّ الوطن والانتماء إليه، فنحن أمام وطن كبير ضحى من أجله آباؤنا وأجدادنا وأمهاتنا وجداتنا؛ فكل عائلة وفيها مجاهد أو شهيد أو مجاهدة أو شهيدة رحمهم الله جميعا، فلو كانت الحجارة تنطق بلغتنا لنطقت أن الجميع ضحوا بالغالي والنفيس من أجل هذا الوطن.

فهل نحن أهل لأن نحافظ على هذه النعمة؟ ومنطلق الحفاظ على هذه النعمة هو: غرس حبّ هذا الوطن في هذه الأجيال لتنطلق في بنائه وتعميره.. لا أن نغرس فيها الاستعداد للفرار من هذا الوطن كلما سنحت لها الفرصة.. هذا هو مفهوم الوطنية، بين الحقيقة والادِّعاء.

فلنغرس المحبة والأُخُوَّة فيما بيننا. ولنحذر من التفرق والاختلاف والعنصرية والجهوية، ولنحذر أيضا من التنازع وسوء ذات البين؛ لأن ذلك يؤدّي إلى الفشل والضعف وإلى تَدَخُل الأعداء؛ قال الله ﷻ: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ, وَلَا تَنَزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَأَصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّبِرِينَ﴾ [الأنفال]. فغرس حب الوطن والدفاع: عنه بالغالي والثمين وبكل الوسائل المشروعة، والمحافظة عليه = من الدين.

وأختم بأن حبّ الوطن يكون بالمحافظة على فكر الأمة ومالها، ﴿وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران: 161]

واعلموا —رحمني الله وإيَّاكم — أنَّ الله ﷻ أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته، فقال قولا كريما ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب].

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارْضَ اللهم عن الأربعة الخُلفاء، الأئمة الحُنفاء، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعنا معهم بعفوك ورحمتك، يا أرحم الرّاحمين.

أيضًا؛ نجِد هنا خطبة الجمعة القادمة: حق الوطن والشهادة في سبيله “مكتوبة”

الدُّعـاء

  • اللهم ارحم من مات من أجل هذا الوطن وارحم من عاش من أجل هذا الوطن، من أجل إعلاء كلمة الله في هذا الوطن.
  • اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشّرك والمشركين، واحم حوزةَ الدِّين.
  • اللهُمَّ إِنَّا نسألك الهدى، والتقى، والعفاف، والغنى.
  • اللهُمَّ آتِ نفوسنا تقواها وزكها أنت خير مَنْ زَكَّاها، أنت وليها ومولاها.
  • اللهم إنا نسألك صلاحًا في أنفسنا، وصلاحًا في أزواجنا، وصلاحًا في أولادنا، وصلاحًا في والدينا، وصلاحًا في علمائنا، وصلاحًا في ولاتنا، أنت أرحم الراحمين، وأجود الأجودين.
  • اللهم فرج كُرب المكروبين، ونفس هموم المهمومين، واقض الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المُسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين.
  • اللَّهُمَّ ارفَعْ عنا الرِّبَا والزنى وأسبابهما، وادفع عنا الزلازل والمحن وسوء الفتن؛ ما ظهر منها وما بطن، يا أكرم الأكرمين.
  • اللهم تقبل توبتنا، وثبت حُجَّتنا، واغسل حَوْبتنا، واغفر زلتنا، وأَقِلْ عثرتنا يا ذا الجلال والإكرام.
  • اللَّهمَّ قِنَا بِرَحمَتِكَ عَذابَ الجَحِيمِ، واجْعَلْ مَنَازِلَنَا وَوَالِدِينَا وجميع المسلمين، فِي جَنَّاتِكَ جَنَّاتِ النَّعِيم، يا أرحم الراحمين.

عباد الرحمن ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، ﴿وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.

وأقِـم الصَّـلاة..

الآن يا إخواني الخطباء، وصلت وإياكُم إلى نهاية هذه الصَّفحة، والتي تناولنا من خلالها خطبة الجمعة هذه، مكتوبة، بعنوان: الوطنية بين الحقيقة والادِّعاء.

وإذا أردتم تحميل الخطبة بصيغة PDF فيُمكنكم ذلك، عبر: هذا الرَّابِط.

وإذا أردتم مُقترَح آخر، ذو صِلة، فهذه كذلك خطبة التضحية لأجل الوطن سبيل الشرفاء والعظماء الأوفياء.

والله ﷻ أسأل أن أكون قد وُفّقت في تقديم هذه الخطبة، وما تبعها من عمل، وأن يكون ذلك في ميزان حسناتي وحسناتكم، والله الموفِّق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error:
Scroll to Top