قصة بوليسية قصيرة وكاملة.. «لغز غرفة الإنعاش»

تمت الكتابة بواسطة:

قصة بوليسية قصيرة

كانت الجريمة كما استمع المفتش سامي إلى ملخص لها على الموبايل أشبه بالجرائم التي تظهر في أفلام هوليوود.. يدخل شخص مجهول ليلا إلى غرفة الإنعاش حيث يوجد المريض ثم يقوم بتعطيل الأجهزة الطبية التي تمد المريض بالأكسجين والدم وغيرها من مستلزمات الحياة ثم يترك المريض ويتسلل خارجا في ظلمة الليل.. ويدخل الطبيب إلى الغرفة في الصباح ليجد المريض بارد الجسد وقد فارقته الحياة.

كانت الساعة السادسة والربع صباحا وسيارة المفتش تشق طريقها مسرعة في الشوارع الخالية إلى المستشفى الكبير وقد أحس بالتوتر والخطر.. فالمجني عليه شخصية مهمة في عالم المال والأعمال.. ومعنى ذلك أن الجريمة معقدة فسوف يكون هناك أكثر من متهم.. وفي هذه الأدلة يستغرق التحقيق وقتا طويلا.. ويصبح الوصول إلى الحقيقة أمرا بالغ الصعوبة شديد التعقيد.

وصل المفتش إلى المستشفى الكبير فوجد مساعده المقدم حسام في انتظاره.. وسرعان ما شم رائحة المطهرات التي تتصاعد من المستشفيات عادة.. وتشعره بالمرض.. وصعدا معا في المصعد النظيف السريع إلى الطابق الثالث وسارا في دهليز اشتدت فيه الحركة برغم الوقت المبكر.. فهناك أربع غرف انعاش متجاورة في الممر.. وقد بدأت جولة الأطباء المبكرة في السادسة ومعهم الممرضون والممرضات.. كذلك لمح المفتش بين هؤلاء وهؤلاء بعض الضباط.. وكان ضابط المباحث الشاب إيهاب من أبلغ تلاميذ المفتش في كلية الشرطة.. فأقبل مرحبا وسارا معا إلى غرفة الانعاش رقم (4) في آخر الممر وبجوار السلم تمامًا!

علي باب الغرفة يقف جندي بسلاحه.. ودخلا.. كانت الغرفة صغيرة نوعا.. وأجهزة التنفس والمحاليل على الحائط خلف الفراش الذي تمدد عليه القتيل مغطى بملاءة زرقاء ولم يكن معه أحد في الغرفة سوى شخص ينتحب في هدوء عرف المفتش أنه ابنه.

عزاه المفتش في كلمات مقتضبة ثم طلب استدعاء الطبيب المختص وحتى يتم استدعاء الطبيب أخذ يتجول في الغرفة.. وخيل إليه أنه يشم رائحة سجائر.. رائحة خفيفة متباعدة ولكن أنف المفتش الحاد لم يخطئها.

دخل المفتش إلى دورة المياه. وخرج إلى الممر الصغير.. وأخذ يبحث عن طفاية السجاير وهو يعلم بديهيا انه من الممنوع منعا باتا التدخين في غرفة الانعاش.

كان الطبيب المسئول قد وصل وقدم نفسه قائلا: دكتور لطفي خطاب.

قال المفتش: ما رأيك فيما حدث يادكتور؟

الدكتور: ليس هناك سوي تعليل واحد.. أن أحدهم قد قام بنزع أجهزة الأكسجين والجلوكوز وغيرها من ضروريات غرفة الإنعاش!

المفتش: نزع الأجهزة وليس تعطيل الأجهزة؟

الدكتور: هذا ممكن.. وهذا ممكن.. والنتيجة واحدة!

المفتش: وهي وفاة المريض!

الدكتور: بالضبط!

المفتش: لقد فهمت من التقرير المبدئي أن الأجهزة كانت موجودة في مكانها!!

الدكتور: كما قلت لك.. قام أحدهم بتعطيل الأجهزة وهي في مكانها أو نزعها وأعادها مرة أخرى بعد أن تأكد من موت المريض!

المفتش: وكم يستغرق موت المريض عند نزع أو تعطيل الأجهزة!

الدكتور: بين ربع ساعة ونصف ساعة!

المفتش: وكيف كانت حالة المريض قبل وفاته!

الدكتور: كانت حالته مستقرة!

المفتش: بمعنى أنها طيبة!

الدكتور: لا.. بمعنى أنها لا تتأخر.. ولا تتقدم!

المفتش: وكم مضى على الأستاذ مختار في غرفة الإنعاش؟

الدكتور: ثلاثة أيام.. وقد وصل مصابا بجلطة في المخ!

المفتش: هل عندك أي تصور كيف دخل الشخص الذي نزع أو عطل الأجهزة؟

الدكتور: لا أدري، إنها مسألة عجيبة لم تحدث من قبل!

المفتش: ألا يكون من العاملين بالمستشفى!

الدكتور: هذا مستحيل!

المفتش: لماذا؟

الدكتور: لأن كل العاملين من أطباء وممرضين وموظفين تم اختيارهم بعناية!

المفتش: وكم مضى على وفاة الأستاذ مختار؟

الدكتور: لقد استدعوني في السادسة وكان قد مات منذ ساعتين!

المفتش: في الرابعة تقريبا؟

الدكتور: تقريبا!

المفتش: لاحظت وجود أعقاب سجائر في الغرفة!

الدكتور: لقد شممت رائحة السجائر عندما حضرت.. ولكني لم ألاحظ وجود أعقاب السجائر.. فليس في غرفة الانعاش طفايات!

ومن باب الغرفة دخل وكيل النيابة والطبيب الشرعي وتبادل الجميع التحيات.. وبدأ المحقق عمله.. وأخذ رجال البصمات يرفعون مايجدون من بصمات هنا وهناك.. بينما انحني المفتش تحت الفراش وأخذ يدقق النظر ثم التقط ورقة من ورق السوليفان الخفيف بأطراف أصابعه ووضعها في كيس صغير من البلاستيك أخرجه من جيبه.

وقف المفتش بجوار النافذة ينظر إلى النيل ويفكر فيما حدث عندما اقترب منه الدكتور لطفي وقال: قد يهمك أن تعلم ياسيادة المفتش أن المرحوم مختار كان عضو مجلس إدارة المستشفى فهو من كبار المساهمين في المستشفى!

المفتش: هذه معلومات مهمة جدا!

الدكتور: لهذه الدرجة!

المفتش: طبعا.. أنها تكشف عن طبيعة القاتل.. فهو واحد من العاملين في المستشفى!

الدكتور: ولكن كيف.. لقد قلت لك: إن هذا مستحيل!

المفتش: سنرى!

استدعى المفتش ضابط المباحث إيهاب وقال له: أريد معلومات دقيقة عن المتوفي.. وعن نشاطه داخل المستشفي.. ومحاضر مجلس الإدارة في الفترة الأخيرة!

وسكت المفتش لحظات ثم قال: هل رفعتم أعقاب السجائر والبصمات!

إيهاب: طبعا.. ولكن يبدو أن اعقاب السجائر لن تجدي.. فهي بلا فلتر كا أن الفاعل أعني القاتل قام بسحقها في الأرض سحقا شديدا!

المفتش: من أي نوع هي؟

إيهاب: من الصعب معرفة النوع.. ولكن دخانها شديد السواد نفاذ الرائحة!

المفتش: سيجار.. أو سيجار لوس!

إيهاب: لا دخان عادي!

المفتش: أريد تقديرك سريعا.. وبصمات العاملين في المستشفى.. وضع في اعتبارك أن الفاعل في الأغلب من داخل المستشفى، ثم انحني المفتش على الضابط وهمس في أذنه بشيء ثم انصرف.

في طريق ذهابه إلى مكتبه كان المفتش يفكر أنه في سباق مع الزمن.. فقد يتمكن الفاعل من السفر اليوم خارج مصر.. ويصبح من الصعب متابعته.. وهكذا عندما دخل مكتبه أعطي لمساعده المظروف الذي وضع فيه ورقة السوليفان وطلب منه الذهاب إلى قسم البصمات لرفع البصمات التي قد توجد عليها.

أخذ المفتش يفكر في مجمل الحقائق التي عنده عن الجريمة.. وأولها أن الفاعل على معرفة بالقتيل.. وأنه يفهم في الطب فيعرف كيف يرفع الأجهزة ويعيدها.. أو يعطلها.. وأنه ليس غريبا عن المستشفى بدليل أنه دخل إلى المستشفى وإلى غرفة الإنعاش دون أن يلفت انتباه أحد.. وأنه مدخن لسجائِر بلا فلتر.. وأنه صاحب مصلحة في موت مختار ثم فكر في الطريق إلى الحل.. أولا البصمات التي قد توجد على الأجهزة الطبية التي رفعها الفاعل.. بصمات المشتبه فيهم.. البصمات على ورق السوليفان.. حصر المشتبه فيهم ممن لهم مصلحة في وفاة مختار.. الحصول على بصماتهم وتحركاتهم قبل الجريمة وبعدها، ثم محاضر الجلسات التي يحضرها مختار بصفته عضو مجلس الإدارة.. فقد تكشف هذه المحاضر عن مشكلات في المستشفى تؤدي إلى إزاحة مختار.

ودق جرس التليفون بجوار المفتش، كان المتحدث مساعده المقدم حسام الذي قال: أتحدث من إدارة البصمات، ليست هناك بصمات على الأجهزة الطبية، ومن الواضح أن الفاعل استخدام قفازا طبيا!

المفتش: وورقة السوليفان؟

حسام: عليها بصمات واضحة تم رفعها، وسأحضرها معي!

أحس المفتش بارتياح، كان يتصور أن ورقة السوليفان التي سقطت من صاحبها واختفت بشفافيتها على السيراميك الأبيض ستكون مهمة في حل اللغز، أنه يقترب أكثر فأكثر من تصور لما حدث..

لم يكد المفتش يضع سماعة التليفون حتى دق الجرس مرة أخرى،. كان المتحدث هو الضابط إيهاب المسئول عن القضية.. وقال إيهاب: لقد صورت لسيادتك محاضر الجلسات التي تمت خلال الشهور الثلاثة الماضية بمعدل جلسة كل شهر.

المفتش: عظيم، وهل قرأتها!

إيهاب: نعم!!

المفتش: هل فيها شيء يلفت النظر؟

إيهاب: لا أدري، ربما!

المفتش: أرسلها لي فورا!

وأخذ المفتش يتصور كيف تمت الواقعة.. لسبب سيتضح فيما بعد يقرر الفاعل أن يقتل مختار عن طريق تعطيل أو رفع أجهزة غرفة الإنعاش، هذا الفاعل يعرف كيف يعطل الأجهزة أو يرفعها ليموت المريض.. وهذا الفاعل يمكن أن يدخل المستشفى دون أن يثير الانتباه،. فهو إذن من المستشفى، وهذا الفاعل مدخن،.

وتوقف المفتش عند هذه النقطة،. فربما قام الفاعل بالتدخين في الغرفة للإسراع بوفاة المريض، وهذا هو الحل الصحيح لكثرة أعقاب السجائر في الغرفة واستمرار رائحة الدخان بعد الوفاة بساعتين هكذا كان تفكير المفتش يسير متسللا، المهم من هو الفاعل، أو من هو القاتل، فهناك عشرات العاملين في المستشفى،. فمن هو بالضبط!

وانشغل المفتش بالعمل العادي نحو ساعتين.. ثم وصلت محاضر جلسات مجلس إدارة المستشفي، وترك المفتش كل شيء وأخذ يقرأ، إن تفكيره بل وحواسه تؤكد له أن اسم القاتل أو الفاعل في هذه الصفحات.

ولم تكن صفحات المحاضر كثيرة، نحو ثلاثين صفحة.. وأخذ المفتش يقرأ بعناية، كانت محاضر عادية تناقش سير العمل في المستشفى والميزانيات، وأسعار الأدوية وضرورة ضغط النفقات والجزاءات التي يجب توقيعها على بعض العاملين لإهمالهم أو تهاونهم،. وعند هذه الجزاءات توقف المفتش طويلا،. ولكن أكثرها كانت جزاءات بسيطة لاتستدعي الإقدام على جريمة قتل، حتى وصل إلى شيء مثير،. مناقشة حول موقف الدكتور سامي الدسوقي الذي تكرر غيابه عن العمل.. ونسب إليه الإهمال في متابعة بعض الحالات المرضية الحرجة، وقد طالب عضو مجلس الإدارة مختار أو المتوفي بإيقافه عن العمل تمهيدا لفصله من المستشفى.

كان محضر مجلس الإدارة يسبق إصابة مختار بالجلطة بثلاثة أيام فقط.

وتوقف المفتش عن القراءة وبدت له الصورة واضحة، ولكن المسألة تحتاج إلى إثبات وأدلة، فاتصل المفتش بالضابط إيهاب وقال له: اسمع يا إيهاب.. دع كل شيء واعثر على دكتور يدعى سامي الدسوقي، يعمل بالمستشفى، ولكنه موقوف عن العمل!!

إيهاب: هل أقبض عليه؟

المفتش: كما تعرف، لابد من استئذان النيابة، حاول أولا أن تجده، وبالطبع ستجد عنوانه ورقم تليفونه بإدارة المستشفى، ثم أقنعه بأننا نريد الحديث معه فقط، وليتم ذلك بسرعة.

وضع المفتش السماعة وأخذ يفكر في الخطوة التالية.. وكان حسام قد عاد ومعه كليشيه البصمات التي كانت على ورقة السوليفان وكانت واضحة.. واستدعاه المفتش وتحدث معه عن استنتاجاته ثم اتفق معه على الخطوات التالية.

مضي الوقت ثقيلا واشتد قلق المفتش.. نصف ساعة.. ساعة.. ساعتين.. ثم دق الموبايل.. وكان المتحدث هو الضابط إيهاب الذي قال: وجدت الدكتور سامي.. إنه يقف في صف التأشيرات في السفارة اللبنانية لاستلام جواز سفره!

المفتش: عظيم.. دعه يأخذ التأشيرة ثم اطلب منه أن يأتي معك للتحقيق معه في شكوى تقدمت بها إحدى مريضاته ولا تشر من قريب أو بعيد للتحقيقات الجارية في موت مختار!

إيهاب: طبعا!

بعد ساعة كان إيهاب يدخل غرفة المفتش ومع الدكتور سامي الذي كان ثابت الأعصاب وشديد الهدوء.. رحب به المفتش وطلب منه الجلوس وطلب له كوبا من الشاي قائلا: لقد بدأ الجو يبرد.. كوب من الشاي سيكون مفيدا!

لم يرد الدكتور سامي وجلس ثم قال بمنتهي الثقة: من هي هذه المريضة.. وأين الشكوى؟.

جاء الشاي بسرعة غير عادية.. فقال المفتش: إنها شكوى بسيطة.. ولكن الشاكية قريبتي ولهذا اهتممت!

بدا الارتياح على وجه الدكتور فقد عرف سبب الاهتمام، وقال ما هو اسمها؟.

المفتش: سنحضر لك الشكوى حالا.. ومعذرة.. ومد المفتش يده فأخذ كوب الشاي وأشار إلى الكوب الآخر وقال: اتفضل!

أمسك الدكتور بالكوب ورشف رشفة ثم أعاده إلى الصينية وفجأة قال المفتش لمساعده: ما هذا الشاي.. إن طعمه غريب.. هات لنا كوبين آخرين.

اسرع حسام برفع الصينية معتذرا لرداءة الشاي.

قال المفتش: معذرة.. المريضة كانت قد تقدمت بالشكوى إلى إدارة المستشفى واجتمع مجلس الإدارة للنظر فيها.. وكان رأي الأستاذ مختار فصلك من العمل!

ثار سامي فجأة ووقف قائلا: هذا كلام فارغ.. إن مختار هذا كان يضطهدني!

المفتش: لماذا؟

سامي: لا أدري..

المفتش: بالمناسبة هل زرته في مرضه الأخير!

سامي: لا.. وكيف أزوره وأنا لا أطيقه!

المفتش: أنت لا تعرف إذن أنه مات!

سامي: لا.. كيف مات؟

المفتش: سأشرح لك كيف مات؟

دخل حسام إلى الغرفة وهمس في أذن المفتش بكلمتين، فقال المفتش: أنت الذي قتلته!

ارتعدت أوصال الدكتور سامي قائلا: أنا.. كيف اقتله وأنا لم أره منذ عشرة أيام!

المفتش: أنت زرته في الساعة الرابعة تقريبا من صباح اليوم.. دخلت إلى المستشفي ولم يسترب فيك أحد باعتبارك من أطباء المستشفي.. ودخلت إلى غرفة العناية المركزة التي بها مختار ورفعت الأجهزة الطبية ثم قمت بفتح علبة سجائر جديدة وأخذت تشعل السجائر واحدة بعد الأخري حتى تسارع بموت مختار وعندما تأكدت من موته أعدت الأجهزة إلى مكانها.

صاح سامي: أنا.. أنا لم أذهب.

المفتش: بل ذهبت..لقد وجدنا ورقة السوليفانالتي نزعتها من علبة السجائر..وبصمتك عليها واضحة..ثم أخذنا بصماتك الآن من على كوب الشاي.

صاح سامي: كوب الشاي!

المفتش: نعم.. ورجال البصمات في الغرفة المجاورة رفعوا البصمات فكانت مطابقة لبصماتك على ورقة السوليفان!

زاغت عينا سامي ودارت الدنيا به، وقال المفتش: إننا سنضع هذه الحقائق وهذه الأدلة أمام وكيل النيابة لاتخاذ القرار اللازم.

ودق المفتش الجرس فظهر ضابطان أحاطا بالدكتور سامي الذي لم يستطع الوقوف فحمله الضابطان وتنهّد المفتش وهو يلقي برأسه إلى الخلف بعد ساعات من التوتر العنيف.

بقلم: محمود سالم


التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: