مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي كتب الموت على عباده، وجعل الآخرة دار القرار لخلقه وأحبابه، نحمده تعالى على جزيل نعمه، ونستعينه على دروب الطاعة وهمّه، ونستغفره مما جناه القلب واللسان واليد والقَدَم.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تفرد بالبقاء والعظمة والكرم، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، خير من عبدَ الله وخافه، وذكر الموت فأعدّ له زاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
الخطبة الأولى
عبادَ الله: اعلموا أن الموتَ مصيرُ الإنسان ونهايتُه مهما طال عمره. وهو المصير المحتوم لكل مخلوق. إظهاراً لقدرة الله ﷻ على العباد. يقول الله ﷻ: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ – [العنكبوت: 57]. فسبحان الحي الذي لا يموت.
والموت انتقال من دار الغرور إلى دار الخلود. ومن دار الفناء إلى دار البقاء. ومن دار العمل إلى دار الحساب والجزاء. ولو نجى أحدٌ من الموت لنجا سيدنا محمدٌ ﷺ. يقول الله ﷻ: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ﴾ – [الزمر: 30]. ويقول الله ﷻ: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ – [الانبياء: 34،35]. ويقول الله ﷻ: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ – [الرحمن: 26،27].
فعلى المؤمن ألاّ ينشغلَ بالدنيا وزخرفها. فَيغفل قلبه عنْ ذكر الموت، فلا يكادُ يذكره، وإذا ذُكرَ الموتُ في حضرته نفرَ منه رغبة باللذات والشهوات. يقول الله ﷻ فيهم: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ – [سورة الجمعة: 8]. ولا ريب أن الإكثار من ذكرِ الموت يؤدي الى حياة القلب فيطمئن بذكر الله ﷻ، يقول ﷺ: (أكثِرُوا ذكرَ هادِمِ اللذَّاتِ) يعني الموتَ. رواه الترمذي.
وفي الحديث أن رجلاً من أصحابِ رسول الله ﷺ مات، فجعل أصحابُ رسولِ اللهِ ﷺ يُثنون عليه، ويذكُرون من عبادتِه ورسولُ اللهِ ﷺ ساكتٌ، فلمَّا سكتوا قال رسولُ اللهِ ﷺ: (هل كان يُكثِرُ ذِكرَ الموتِ؟ قالوا: لا. قال: فهل كان يدَعُ كثيرًا ممَّا يشتهي؟ قالوا: لا. قال: ما بلغ صاحبُكم كثيرًا ممَّا تذهبون إليه). رواه الطبراني.
واعلموا يا عباد الله أن ذكر الموت من أعظم الأمور التي تُعين المسلم على التقرب إلى الله ﷻ فلا يغفل القلب ولا اللسان عن ذكر الله ﷻ؛ لأن الغفلة هي أصل البلاء، وهي السبب في عدم تذكر الموت محبة بطول الأمل في الدنيا. لذلك حذرنا رسول الله ﷺ بقوله: (كُنْ في الدُّنيا كأنَّك غريبٌ أو كعابرِ سبيلٍ) أخرجه البخاري.
قَالَ الدقاقُ رَحِمَهُ اللهُ: مَنْ أكثرَ ذِكرَ الموتِ، أُكرِمَ بثلاثٍ: تعجيلُ التوبةِ، وَقناعةُ القلبِ، وَنشاطُ العِبادةِ، وَمنْ نسيهُ، عُوقِبَ بثلاثٍ: تسويفُ التوبةِ، وتركُ الرِضَا بالكفافِ، وَالتكاسلُ في العِبادةِ.
وعلى المؤمن أن يعلم أن الموت قريب لا بعيد. وأنه يأتي فجأة ولات حين مندم، والعاقلُ من أحسن الاستعداد لهذا القادم ليلقى ربه ﷻ في طاعته سبحانه. قال رسول الله ﷺ: (الكَيِّسُ مَن دان نفسَه وعمِل لما بعدَ الموتِ والعاجِزُ مَن أتبَع نفسَه هَواها وتمنَّى على اللهِ الأمانِيَّ) رواه الترمذي.
واعلموا أن الموت عند المؤمنين المتقين أمرٌ فيه خير عظيم. فمن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. قال رسول الله ﷺ: (مَن أحَبَّ لقاءَ اللهِ أحَبَّ اللهُ لقاءَه ومَن كرِه لقاءَ اللهِ كرِه اللهُ لقاءَه) أخرجه ابن حبان. كما أن الدار الآخرة هي الحياة الحقيقية لو كانوا يعلمون. يقول الله ﷻ: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ – [سورة العنكبوت: 64]. وعن رسول الله ﷺ قال: “تحفة المؤمن الموت” رواه الطبراني. وقال ﷺ: (إذا وُضِعَتِ الجَنازةُ فاحتملَها الرِّجالُ على أعناقِهِم، فإن كانَت صالحةً قالَت: قدِّموني قدِّموني) أخرجه النسائي.
وهذا بلال بن رباح مؤذن الرسول ﷺ لما حضرته الوفاة وبكت زوجته وقالت: “واحُزناه، قال لها: بل واطَرَباه، غدًا نلقى الأحِبّهْ محمّدا وصحبَهْ”.
واعلموا أن رأس مال الإنسان في هذ الدنيا هو عمره، فالواجب عليه ألا ينفق أيامه وأوقاته وساعاته وأنفاسه فيما لا خير فيه ولا منفعة، فيطول تحسره، ويعظم أسفه بعد الموت، قال رسولُ الله ﷺ لرجلٍ وهو يَعِظُه: (اغتنِمْ خمسًا قبل خمسٍ: شبابَك قبل هَرَمِك، وصِحَّتَك قبل سَقَمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك) المستدرك على الصحيحين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله الحليم الكريم لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
وهذه ⇐ خطبة عن الموت مكتوبة وكاملة ومختتمة بدعاء مؤثر
الخطبة الثانية
الحمد لله ختامًا كما حمدناه بدءًا، وله الثناء أبدًا سرًّا وجهرًا، وصلاةً وسلامًا على من كان بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله، اتقوا الله حقَّ التقوى، واذكروا الموت ذكرَ من أيقن باللقيا، فالموت بابٌ، وكلُّ الناس داخله، والقبرُ أولُ منازل الآخرة، فإما روضةٌ من رياض الجنة، وإما حفرةٌ من حفر النار، ألا فاعملوا ليومٍ تُعرضون فيه على الجبار، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
استعدوا للموت قبل نزوله، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، وتوبوا إلى الله توبة نصوحًا، فلعل ملك الموت قد أُمر بأحدنا، ولا يدري أين يلقاه، ولا متى يفجؤه، فإن الموت يأتي بغتة، والقبر صندوق العمل.
اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، وبالسعادة آجالنا، واجعل قبورنا روضةً من رياض جنتك، ولا تجعلها حفرةً من حفر سخطك، وارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ورضوانا، يا أرحم الراحمين.
وصلّ اللهم وسلّم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.