الأسرة المغربية.. تحديات العولمة وتحولات المجتمع

الأسرة المغربية.. تحديات العولمة وتحولات المجتمع

لا يختلف اثنان حول الأهمية القصوى للأدوار والوظائف التي ينبغي أن تضطلع بها الأسرة باعتبارها نواة رئيسة تقوم بتوجيه المجتمع نحو مستقبل أفضل، من خلال تحضير أبناء قادرين على التفاعل مع الحياة ومع محيطهم بالطريقة التي تجعلهم عناصر إيجابية تؤثر وتتأثر، تصلح نفسها وتصلح غيرها.

وتُعرف الأسرة المغربية بكونها أسرة محافظة على دينها وقيمها منذ أجيال وعقود خلت؛ حيث إنها كانت مضرب الأمثال في الصلاح والإصلاح وفي المحافظة على توجهات الدين واحترام مقدساته والذود عنها في كل المحافل. غير أن الرياح الهوجاء للعولمة أفضت إلى تحولات حاسمة ومؤثرة في هذه القيم الأسرية، وأفسدت ما أفسدته من مقومات الأسرة المتماسكة لتعوضها أسرار وعائلات منخورة ومنهوكة القوى.

فما مظاهر هذا الوهن الذي لم يعد خافيا على أحد؟، وما أسبابه وكيف يمكن العودة من جديد إلى منابع القيم الحميدة لتدرأ عنها طوفان العولمة ورياح الإفساد؟.

الأسرة والتدين

الأصل في الأسرة المغربية هو تدينها وفطرتها الإسلامية النقية، فكانت وما زال العديد من الأسر كذلك – أسرة متماسكة ومتحابة وتحرص على دينها كما تحرص على أمور حياتها، فتجد الجد والجدة أو الأب والأم أكثر حرصا على أداء العبادات وفرائض الدين من صلاة وصيام وزكاة وفعل الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعامل الحسن وحسن الجوار والتآزر والتضامن وشتى القيم الإسلامية الحميدة.

ومن بعدهم يأتي التشرب من طرف الأبناء ذكورا وإناثا، فتجد أغلب أفراد هذه الأسرة المتدينة وقد اهتدوا إلى الطريق الصحيح متأثرين بما يرونه أمامهم لدى آبائهم أو أجدادهم، فتنصلح أحوال الأسرة التي تجعل بذلك من المجتمع فضاء لانتشار القيم التربوية والاجتماعية التي تبني ولا تهدم، وتطور ولا تعود به القهقرى.

وبذلك كانت الأسرة المغربية -مثل مثيلاتها في شتى البلاد الإسلامية- محضنا للاتحاد والتلاحم والتنشئة الحضارية، وتستطيع بفضل هذه القوة التي تتسم بها أن تؤدي وظائفها التربوية والاجتماعية والاقتصادية المطلوبة أداء سليماً دون انحراف في المنهج ولا فساد في المنشأ..

وتبين الدراسات الاجتماعية التي أجريت في السنوات القليلة الأخيرة أهمية التدين في الأسر المغربية، بالرغم من أن التدين كسلوك وعقيدة لا يحتاج إلى دراسات، لكن لابأس من الاستئناس بها في هذا المقام.

وقد كشفت دراسة القيم الدينية لدى المغاربة التي أنجزت قبل أشهر عدة أن الشباب أكثر معرفة بالدين من جيل الشباب السابق بنسبة 65.7٪.

وعدت الدراسة الدين عنصراً محورياً في حياة الأسر بالمغرب، باعتبار أن نسبة 60.52٪ في المائة من المستجوبين يعيرون الدين اهتماما كبيرا، وترتفع الممارسات الدينية مع التقدم في السن، وزادت الدراسة أن 84 في المائة من المغاربة مع ارتداء النساء للحجاب، 64.9٪ منهم لأسباب دينية، و 75٪ منهم يعدون الحجاب دليلا على المرأة المسلمة.

وجاءت الدراسة ذاتها أن 66 ٪ من المستجوبين يعتقدون أن الإسلام يتضمن جميع الحلول، وترتفع النسبة كلما ازداد المرء في السن، كما بينت الدراسة أن 73٪ يقيمون الصلاة بشكل يومي، و65.7٪ من هذه الشريحة أكدوا أنهم يصلون بانتظام.

واقرأ هنا حول: تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على الأسرة بالإيجاب والسلب

تحولات أسرية

لكن هذا الواقع الذي يدل على تجذر التدين والخصال الحميدة والقيم الطيبة داخل الأسر المغربية يصطدم حاليا برياح عاتية أتت من الخارج، وهي رياح العولمة التي لا تبقي ولا تذر، فتأثر العديد من الأسر بالتغريب وبأجواء التحرر، الشيء الذي أفقدها نضارتها وجعلها تعاني عدة تصدعات وتفككات اجتماعية ونفسية خطيرة.

وتؤكد ذلك الدكتورة سمية بنخلدون، رئيسة منتدى الزهراء للمرأة المغربية، التي تعد الأسرة المغربية مصابة بالكثير من الفتور أمام أمواج التحولات والتغيرات المتسارعة المتتالية التي يشهدها العالم في مختلف مناحي الحياة من جهة، وأصابها من جهة أخرى الكثير من الحيرة أمام بعض التصورات حول المراة التي ترتدي الحجاب..

وترى بنخلدون أن العولمة وتبعاتها أعطت للأسرة تصورا جديدا غير العديد من المعايير والأسس التي تنبني عليها الأسرة المغربية؛مما ينذر بتفكك الأسرة وبنياتها وإعاقتها عن أداء دورها الحضاري، فضلا عن تخليها عن مركزيتها في النظام الاجتماعي، الشيء الذي أفرز بعض المظاهر الشاذة والغريبة عن المجتمع وقيم ديننا الإسلامي الحنيف وتشريعاته الوسطية والسمحة، ومنها تزايد نسبة العزوبية وعزوف الشباب عن الزواج، وارتفاع معدلات الطلاق والتحرش الجنسي وزيادة الأطفال المشردين..

وتقرأ هنا كذلك: ما أهمية تفهم الأدوار داخل الأسرة

الأسرة الممتدة والنووية

وعرفت الأسرة المغربية اختلالات مؤثرة بداعي التحولات القيمية المتلاحقة، فأضحت الأسرة نووية تتكون من الأب والأم والأبناء فقط بعد أن كانت أسرة ممتدة وبعد أن كانت الأسرة تعيش فيما يسمى بالدار الكبيرة، أي المنزل الذي يضم الأب والأم والجد والجدة أو العم والعمة وغيرهم من أفراد الأسرة.

ومرد هذا التحول اقتصادي بالأساس؛ حيث باتت صعوبات العيش ومتطلبات الحياة المتزايدة تفرض على الشاب أن يعيش مع زوجته وحدهما في منزل، بعيدا عن عائلته من والديه وإخوته من أجل خفض التكاليف والمصاريف.

لكن اندثار الأسرة الممتدة تدريجيا جعل الكثير من المخاطر تحف بها، باعتبار أن الأسرة الممتدة كانت تشتمل على الجد والجدة وأحيانا العم والخال وغيرهم حيث يعدون بمثابة صمامات أمان للأسرة وأفرادها، وكانوا يحيطونهم بالكثير من الحنان والعطف، وكانوا يوجدون دائما في المواقف الحرجة والصعبة ليقدموا يد العون ويمنعوا الأسرة من الوقوع في الانحرافات الاجتماعية.

وبسبب التحولات الاجتماعية التي حملتها العولمة، وأيضا اقتحام بعض القيم الدخيلة على المجتمع المغربي والتي أتت إليه من طرف وسائل الإعلام والمسلسلات المكسيكية والتركية، وبسبب ضعف الوازع الديني أضحت الأسرة في مهب الريح بسبب الرغبة في التقليد واتباع تلك الأنماط الاجتماعية والسلوكية على مستوى اللباس والقيم ومختلف أشكال الحياة.

وبالتالي، اندلعت شرارة التفكك الأسري بسبب ارتفاع نسبة الطلاق الذي جر الوبال على المجتمع بإنتاج أطفال الشوارع أو الأطفال المشردين، كما أن المجتمع صار يعرف ما يسمى بالأمهات العازبات والتحرش الجنسي والاغتصاب وغيرها من الجرائم.

كذلك؛ وتطَّلع هنا على: دور الأب مع أبنائه داخل الأسرة

الفردانية والتنقيد

ومن التحولات الأخرى التي صارت تهدد المجتمع تلك التي يسميها الإخصائي في علم الاجتماع الدكتور عبد الرحيم عنبي بالفردانية و(تنقيد) المجتمع المغربي خلال السنوات القليلة الأخيرة.

ويشرح عنبي ذلك بأن الفردانية أضحت ظاهرة تطغى على العلاقات بين أفراد المجتمع، ولم يعد ذلك التكافل والتآزر الاجتماعي حاضرا بقوة كما كان في سنوات خلت، لدرجة أن علاقات الجيران في بعض المدن الكبرى خاصة صارت فاترة وباردة، والجار لم يعد يعرف جاره ولا يواسيه ولا يفرح لفرحه ولا يحزن لحزنه، وباتت الحواجز بين الجيران كثيفة والصلات بينهم شبه منعدمة.

أما «تنقيد» المجتمع، فالمقصود به هو أن عامل النقد والمال بات هو المهيمن في أغلب الحالات، ولم تعد العلاقات الأسرية تنبني على التراحم والتعاطف، بل على كم يتمكن الفرد من الزيادة في موارد الأسرة، وذلك راجع في كثير من الأحيان إلى الصعوبات الاقتصادية التي تؤثر على الأسرة.

وبحسب عنبي، العامل الاقتصادي والمالي صار هو المقياس الذي تقاس به شخصية المرء وعطاءاته ومركزه داخل الأسرة، حتى إن الأب أضحى مجرد ممون للعائلة والمسؤول فقط من حاجياتها ومتطلباتها المالية، وفقد بالتالي وظيفته التربوية والاجتماعية أو كاد يفقدها بالتدريج.

وفي هذا المقال نجِد: أهمية الحوار داخل الأسرة وكيف يُمكن تعزيزه

الإرشاد الأسري

وإذا كانت هذه المظاهر آخذة في التغلغل والانتشار في مجتمع محافظ كالمجتمع المغربي، فإنه من الخطأ الجزم بأن الوقت قد فات لإصلاح مكامن الخلل؛ حيث توجد إمكانيات لذلك من خلال عدة آليات وطرق تتيح العودة من جديد إلى الأسرة المتماسكة والمتحابة التي تقف في وجه رياح العولمة الكاسحة دون خوف، تستثمر إيجابياتها وتنأى بنفسها عن سلبياتها ومخاطرها.

وترى د. سمية بنخلدون أن مثل هذه المظاهر تستدعي إيلاء الأسرة المغربية ما تستحق من العناية والحث على الحفاظ على تماسكها والتحذير من كل مظاهر التفكك وآثارها الاجتماعية والنفسية الخطيرة.

وترى أيضاً أن الحل قد يكون في الإرشاد الأسري الذي يمكنه أن يؤدي دورا في درء التصدعات التي تتعرض لها الأسرة وتقوية فضائها وتنمية قدراتها وتأهيلها للقيام بوظائفها من خلال وسائل عدة، لعل أبرزها: إشاعة ثقافة أسرية هادفة وبناءة وتعزيز البناء التعاقدي والأخلاقي للأسرة، وتشجيع التماسك الأسري وإرشاد المقبلين على الزواج، والتدخل لإصلاح ذات البين، وأيضا إقرار مفهوم العدل والإنصاف والكرامة بدل المساواة المثلية والندية التي ترهق جميع أطراف الأسرة وتهدد بتفكيكها.

وشددت الناشطة الإسلامية على أنه ينبغي أن تشتغل جميع المؤسسات التي تساهم في بناء الوعي وتأهيل الإنسان معرفيا وثقافيا وروحيا، سواء تعلق الأمر بالتربية والتكوين أو الإعلام أو المساجد والجمعيات والهيئات السياسية، في غرس قيم التضامن والتراحم بين الرجل والمراة منذ نعومة أظفارهما إلى أن يبلغا سن الزواج ويقدر الله لهما تأسيس أسرة تُخَرّج الإنسان المسلم والحضاري الفعال والإيجابي.

بقلم: حسن الأشرف

أضف تعليق

error: