هل صحيح البخاري معصوم؟

هل صحيح البخاري معصوم؟

من الأسئلة التي تتكرر كل فينة والأُخرى؛ سؤال: هل صحيح البخاري كتاب مقدس؟ وهل الإمام البخاري معصوم عن الخطأ؟ تُجيب الدكتورة ابتهال ابوزيد على هذه التساؤلات أولا؛ فتقول: الجواب لا، صحيح البخاري ليس كتابا مقدسا، لأن الذي صنفه بشر غير معصومٍ عن الخطأ.

لكن البعض يسأل: إذا لماذا تعترضون على القدح به؟ وتدافعون عنه دفاعا مستميتا أمام من يُشكك ببعض أحاديثه؟ ألم ينتقد المتقدمون صحيح البخاري؟ لماذا لا تتقبلون انتقادنا واعتراضنا عليه؟

فأردفت الدكتورة حديثها.. الجواب: صحيح أن صحيح البخاري ليس كالقرآن في قداسته، فالقرآن هو الكتاب الوحيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولكنه حوى أصح سنةٍ وردتنا عن رسول الله ﷺ، وهي وحي أيضًا، لا غنى عنها لامتثال أوامر القرآن الكريم التي وردتنا الكثير منها بصورةٍ مُجملة نستطيع معرفة تفاصيل التشريع فيها إلا من خلال سنة النبي ﷺ، وإلا تصبح آيات القرآن نصوصا مفتوحة يفسرها من شاء كما شاء، كما نرى في أيامنا هذه. وذلك يخدش في وظيفة القرآن الأساسية ككتاب هداية، -حاشا لله-.

كيف أُثبت أنه أصح كتب السُّنَّة؟

إذًا؛ كيف عرفتم أن صحيح البخاري أصح سنة وردتنا عن رسول الله ﷺ؟

أولا: لأن هذه التي صححها الإمام البخاري لم يكن هو أول من صححها، هي صحيحة، نصّ نقاد الحديث على صحتها من قبل أن يولد.

ثانيا: لأن الإمام البخاري اعتمد في انتقائها من بين الصِحاح على توخّي أعلى درجات الدقة والاحتياط وسلك أوثق المسالك المعروفة والمُتبعة في قوانين الرواية بين جهابذة نقاد الحديث لتحقيق ذلك.

ثالثا: لأن الإمام البخاري كان في الدرجة العليا من هذا العلم. فقد أجمع نقاد عصره ومن بعدهم على إمامته في هذا الشأن.

رابعا: لأن المختصين في علم الحديث تلقوا صحيح البخاري بالقبول بعد أن اطلعوا عليه، واعترفوا بأنه حوى أصح سنة وردت عن رسول الله ﷺ.

لذلك أكبّوا على كتابه شرحا وتأليفا حول رواته وشرحا لغريب ألفاظه. كما وقد تلقاه جميع علماء الأُمة بالقبول ولا يخدش هذا الإجماع رأيٌ شاذ من أحد الذين لا يخلو أي زمان منهم.

خامسا: لأنه قد أُجريت عليه مراجعات نقدية عديدة من أهل الاختصاص، ونُقاد الحديث مدرسة في الإنصاف والموضوعية. يكفي أن تقرأ في تراجمهم وتطلع على بعض مسالكهم لتُدرك ذلك. وهذه المراجعات النقدية تمخضت عن نقد بعض الطرق أوردها الإمام البخاري في صحيحة؛ من باب صحيحٍ وأصح، من باب أولى؛ كما فعل الإمام الدارقطني في كتابه “التتبع والإلزامات”. ومجمل ما انتقده الدارقطني من أحاديث على صحيح البخاري 110 حديثا، غالبيتها نقدٌ موجَّه للأسانيد وليست للمتون، من أصل أكثر من سبعة آلاف وخمسمائة حديث. فيكون نسبة ما انتُقد هو أقل من واحد ونِصف بالمائة، وما جاء من نقد يسير جِدا للمتون كان متوجها لألفاظ يسيرة في هذه المتون لا تتعلق في أصل من أصول الدين بل في القضايا الفرعية. وقد صرح بعض العلماء أن الصواب في غالبية ما وُجه من نقد لصحيح البخاري هو ما أخرجه الإمام البخاري.

سابعا: لأن الذين انتقدوا صحيح البخاري كانوا يعترفون بأنه في الدرجة العُليا من الصحة، وكانوا يعترفون بإمامة صاحبه في هذا الشأن. ولكن المنهج العلمي القائم على التفكير الناقد والموضوعية والأمانة والدقة العلمية وعدم المحاباة هو ما دفعهم لإجراء هذا النقد.

ثامنا: ما حصل من نقد لصحيح البخاري كان يتناول جانبا تخصصيا بحتا، ونتائج هذا النقد غير مؤثرة في الأحكام الشرعية الثابتة. فهو أمر يدل على الإمعان في حفظ حديث رسول الله ﷺ من جهة، ويدل -من جهة أخرى- على مدى تمكنهم ودقة مسالكهم في حفظ الأحاديث.

وعلى ذلك فإن نقاد الحديث -جُلهم- لم يعترضوا على ما يُعترَض عليه اليوم من أحاديث. أي أن هذا النقد لم يتمخض عنه إنكار فرضية الحجاب ولا رد حد الرجم ولا حد الردة ولا حديث سحر النبي ﷺ ولا نزول عيسى -عليه السلام- ولا عذاب القبر، ولا حديث فقأ موسى لعين الملك.. وغيرها مما يرده الطاعنون في صحيح البخاري في خضم هذه الموجة التشكيكية الممنهجة عليه.

إذًا.. على ما يحتجون بنقد المتقدمين لصحيح البخاري؟ فقط للتضليل، لأنهم يريدون الاحتماء بغطاء منهجي، لأنهم بعيدون كل البعد عن العلم والمنهج الصحيح. فنقدهم لصحيح البخاري لم يُبنى عن دراية، غاية الأمر أن ما جاء فيه لا يتوافق مع أفهامهم القاصرة، ولا يتوافق مع الثقافة الغربية الغالبة على نفوسهم. وفوق ذلك يحاكمون ألفاظ الحديث إلى معرفتهم اللغوية الضحلة، ويعطونها -أي يعطون هذه الألفاظ- مدلولات ما أنزل الله بها من سلطان؛ إن يتبعون إلا الظن ويحسبون أنهم على شيء.

تاسعا: مُجمل ما انتقده النقاد الحديث على صحيح البخاري -إذا سلمنا بجميعه- لا يتجاوز الواحد والنصف بالمئة، أي أن صحيح البخاري يُحرز بعد هذا النقد درجة ثمان وتسعين ونصف بالمئة، لم يخطئ فيما يتعلق بأصل من أصول الدين ومرتكزاته.

نقول: كيف لعاقل حسن النية، بعد كل هذا العرض، أن يطعن في صحيح البخاري في ظل هذه الهجمة الشعواء على السنة النبوية وثوابت الدين؟ أليس من الموضوعية -بعد كل ما ذكرناه- أن نُصِر على أنه في مُجمله صحيح؟ خاصة وأن للبخاري منهجية معينة تصنيفه، ينبغي معرفتها لنحسن التعاطي معه. وهذا أمر يعرفه أهل الاختصاص.

على سبيل المثال

ولنضرب مثالا لتقريب صورة ما يحصل عند الطعن في صحيح البخاري ومآلاته المُجحفة -يعني ما يحصل عندما يقوم أحدنا بالطعن في صحيح البخاري- لنفترض أن ثمة طالب علم، ذكيا ألمعيا مجتهدا، قرر مجموعة من الحاسدين أن يستولوا على ورقة إجابته لامتحان الرياضيات -مثلا- لتصليحها، وهم لا عِلم لهم بالرياضيات إلا صور عامة منه، وقد بخسوه حقه وأعطوه علامة متدنية ووصفوه بأنه طالب فاشل لا ينبغي الاعتماد عليه في فهم مادة الرياضيات.

وكانت ورقته -أصلا- قد تم مسبقا تصليحها من قبل مختصين شديدي الدقة، وقد أحرز ثمان وتسعين ونصف بالمائة. وقد أشادوا بعِلمه وفطنته، وتمت الإشارة منهم إلى أن ما وقع منه -أي من الإمام البخاري- من أخطاء لا يمس فهمه لأساسية المادة. يعني إذا نزلنا المثال وأنزلناه على الإمام البخاري. نفترض هذا الطالب وقع منه أخطاء لا يمس فهمه لأساسيات المادة وأصولها وإنما أخطاء بشرية يسيرة من باب عدم وضع الجواب في أبسط صورة، أو من باب أنه استعمل في الحل طريقة وغيرها أولى منها.

فهل من الموضوعية والإنصاف عندما يكون هذا الطالب الفذ المجتهد، في وضعية الافتراء عليه من قبل بعض الجهلة والحاقدين، هل من الموضوعية والإنصاف أن نماشي هؤلاء؟

وهنا تجِد: أشهر كتب الحديث الشريف

نتيجة الطعن في صحيح البخاري

انظروا.. نعم، كلامكم صحيح، ثمة فاصلة منقوطة كان يجب وضعها، وهنا لم يكن خطه واضحا، هنا جوابه محتمل.. هنا كذا.

وفوق ذلك.. هل من الموضوعية أن يُتكلم في هذا أمام العوام الذين لا علم لهم؟

مجموعة من الحاسدين والجهلة وفوقهم أنت يا من تدعي خوفك على الدين واستغناءك بالقرآن عن السنة.. وكل هذا أمام العوام.

ما النتيجة التي نتوقعها مع فساد الذمم؟ النتيجة رد أصح سنة عن رسول الله ﷺ من باب: ما الذي يُدرينا ما الصواب من الخطأ! هكذا يردد الناس.. لنتيه بعدها في اختلافات غير مستساغة حول أمور مبتوت فيها في سنة النبي ﷺ الصحيحة الثابتة لتختلط علينا الأمور، فيسقط التكليف لأنه أصبح راجعا لهوى أنفسنا.

والمصيبة تعظم عندما يكون من يسعى في بصحيح البخاري متخصصا في العلم الشرعي أو حتى في الحديث الشريف.

هنا اكتمل مثلث الانسلاخ من الدين، أصبح عندنا غطاء شرعي للخروج من عبء التكاليف الشرعية. طبعا وصولا إلى التشكيك في العقيدة؛ لذلك نقول: من شك بالسنة شك بالقرآن. خاصة وأن نقلة السنة هم نقلة القرآن.

لذلك نجد كثيرا من الشباب الذين آل بهم الحال إلى الميل إلى اللادينية بدأ أمر بهم بالتشكيك في حديث صحيح ثابت.

كذلك؛ لا يفوتكم التعرّف على: أهم كتب الحديث وشروحها

لماذا ندافع عن صحيح البخاري!

وبعد كل ما كل ما ذكرت؛ هل علمت أيها السائل لماذا ندافع عن صحيح البخاري؟

وأخيرا أيها الأكارم؛ لا تستمعوا إلى هؤلاء الذين يتناولون صحيح البخاري بالتشكيك. فهم على شاكلتين:

  • إما مجموعة من العابثين الحاقدين أو الجهلة، حتى لو خدعوا الناس بأثقال ألسنتهم بمصطلحات علمية ربما الناس يسمعونها لأول مرة. هذه المصطلحات هم لا يقدرون على فهم مضامينها ومدلولاتها وما كل ما يلمع ذهبا.
  • أو أن بعضهم من أهل الاختصاص الشرعي، والقليل النادر منه من المنتسبين إلى علم الحديث، إما مفتونين أو جهلة يعتقدون أنهم حازوا العلم بحذافيره وهم ما زالوا يطيشون على شبر منه.

ويكفي -منطقيا- أن يجتمع أهل الاختصاص -أيا كان هذا الاختصاص- على اعوجاج مسلك أحد المنتسبين إلى هذا الاختصاص، يكفي ذلك لأن لا يُؤخذ عن هؤلاء.

وأخيرا لا تستهينوا في مسألة القدح في صحيح البخاري؛ فالشك -كما قلنا- في السنة الصحيحة يؤول في آخر المطاف حتما إلى الشك بالقرآن الكريم، ثم إلى الإلحاد والعياذ بالله. ولا تدفعنكم الرغبة في التغريد بعيدا عن السرب إلى أن تخوضوا مع الخائضين فيما ليس لكم به علم. ابحثوا واسألوا أهل الاختصاص وادعوا الله بصدق أن يدلكم على الحق، فإن صدقتم الله يصدقكم.

(رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ).

وهنا تتعرفوا أكثر على كتاب صحيح البخاري: رحلة في حياة الإمام وكتابه الجامع الصحيح

تنويه

إلى هذا الحد السابق انتهت الدكتورة ابتهال ابوزيد من محاضرتها أو من شرحها وتفنيدها للموضوع. وكل ما ورد هو تمامًا كما ورد عنها وتم كتابته.

نسأل الله أن ينفعنا جميعًا بالعِلم الصالح.

أضف تعليق

error: