خطبة: مفهوم الشهادة ومنازل الشهداء

اقرأ هنا خطبة الجمعة القادمة: مفهوم الشهادة ومنازل الشهداء

مقدمة الخطبة

الحمد لله عدد خلقه ورضا نفسه وزِنة عرشه ومداد كلماته، والحمد لله عدد ما أقلته أرض وأظلته سماء، والحمد لله عدد ما سأل السائلون وما أستجاب من الدعاء، والحمد لله عدد ما خطه القلم وجرى به القضاء، والصلاة والسلام على رسوله ونبيه وحبيبه من خلقه ومصطفاه، وعلى آل بيته، وصحبه ومن أيده ونصره ووالاه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم نلقاه.

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأن محمد نبيه ورسوله أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة وكشف الله به الغُمّة، ونسأل الله له الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة، والمقام المحمود الذي وعده، وأن يجزيه خير ما جزا نبياً عن أمته.

الخطبة الأولى

ثم أما بعد: فإن الله عز وجل جعل لنا منهجاً متكاملاً شاملاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، وجعل نبيه محمد “صلى الله عليه وسلم” مبلغاً لهذا المنهج معلماً له وداعياً إليه، وقد بين لنا منهج الشريعة الغراء صالح الأعمال وما يكره منها، وما يحرم وبين ضمن ما بين درجات الاستحباب والفضل في الأعمال الصالحة، وفصلت لنا السنة النبوية مكانة كل عمل عند الله عز وجل وما أعده للقائم به من فضل، وأوصتنا أن نطرق كل أبواب الخير ونسلك مسالك البر، فنحن لا ندري أيها يقود إلى مرضاة الله عز وجل، ومن العبادات والقربات التي احتلت مكانة خاصة جداً لا يضاهيها غيرها الشهادة في سبيل الله، وبذل النفس في سبيل دعوته والتضحية بالحياة ومتاعها ونعيمها نزولاً على أمر الله عز وجل وطمعاً فيما عنده من النعيم المقيم والفضل، وهنا سيدور حديثنا حول بيان مفهوم الشهادة ومنازل الشهداء.

أما الشهادة في سبيل الله فهي كلمة تشمل كل صور بذل الحياة والموت في سبيل الله، وعبارة “سبيل الله ” تلك تشمل كل شهادة بدافع حب الله ورسوله والدفاع عن الحق، وعن الدعوة أو العرض، أو النفس أو الوطن أو المال.

أما الشهيد فهو كل من قتل في ساحة معركة لله وبمقتضى أمر الله، وبنية خالصة لوجه الله عز وجل، ولعل مرتبة الشهادة والاتصاف بها أمر يعلمه الله عز وجل وحده، لأنه المطلع على النوايا والدوافع، وهو العالم بالأسباب الحقيقة التي حملت الانسان على بذل روحه والتضحية بحياته، قال أعرابيٌّ للنبيِّ ” عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام”: (الرَّجلُ يُقاتلُ للمَغنَمِ، والرَّجلُ يُقاتلُ ليُذْكَرَ، ويُقاتِلُ ليُرَى مَكانُهُ، من في سَبيلِ اللهِ؟ فقال: من قاتلَ لِتكونَ كلمةُ اللهِ هي العُليا فهوَ في سبيلِ اللهِ).

والظاهر أن من قتل بدون وجه حق وسلبت حياته دون ذنب فهو عندنا شهيد، وقد أخبرنا النبي “صلى الله عليه وسلم” أن وصف الشهيد يشمل كل من قتل مدافعاً عن ماله أو عرضه أو أهله أو دينه، ومما جاء في ذلك حديث أَبي هُريرة “رضي الله عنه” أنه قالَ: جاء رجُلٌ إِلَى رَسُول اللَّه “صلى الله عليه وسلم” فَقَال: يَا رسولَ اللَّه أَرأَيت إنْ جاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: فَلا تُعْطِهِ مالكَ قَالَ: أَرأَيْتَ إنْ قَاتلني؟ قَالَ: قَاتِلْهُ.

قَالَ: أَرأَيت إنْ قَتلَني؟ قَالَ: فَأنْت شَهيدٌ قَالَ: أَرأَيْتَ إنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: هُوَ فِي النَّارِ رواهُ مسلمٌ، ونفس المعنى يؤكده حديث أَبي الأعْوَر سعيدِ بنِ زَيْدِ بنِ عَمْرو بنِ نُفَيْلٍ، أَحدِ العشَرةِ المشْهُودِ لَهمْ بالجنَّةِ رضي الله عنهم حيث قَالَ: سمِعت رسُول اللَّهِ “صلى الله عليه وسلم” يقولُ: منْ قُتِل دُونَ مالِهِ فهُو شَهيدٌ، ومنْ قُتلَ دُونَ دمِهِ فهُو شهيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ دِينِهِ فَهو شهيدٌ، ومنْ قُتِل دُونَ أهْلِهِ فهُو شهيدٌ، رواه أَبو داود، والترمذي وَقالَ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

ومن عظم فضل الشهادة وعلو منزلتها وما تنطوي عليه من صور الرحمة من الله عز وجل والعطاء الكريم لعباده، من الثواب العظيم النجاة من العذاب ودخول الجنة وتبوء أعلى مراتبها فقد جعل الله لبعض الخلق ممن يموتون على فراشهم ولا يلقون عدواً فضل الشهداء وثوابهم، وهذا تعويضاً لهم وجزاءً على صبرهم على الابتلاءات الشديدة والأمراض المرهقة مثل من مات بعلة في بطنه، أو عن الموتة الشديدة المروعة التي يعالجون فيها سكرات الهلع والهلاك قبل خروج الروح مثل من مات حريقاً أو مات غريقاً، أو مات مطعوناً، وقياساً على القتل بالطعن القتل بغيره بدون وجه حق، وهذا يستثني من قتل في قصاص أو حد أو نحوه، ولعل من أثار السنة النبوية المطهرة التي بينت لنا هذا الأمر ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة “رضي الله عنه” عن النبي “صلى الله عليه وسلم”: أنه قال: ( الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ : المَطْعُونُ، وَالمَبْطُونُ، وَالغَرِيقُ، وَصَاحِبُ الهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ )، ومن ذلك ما رواه ابن ماجة من أن النبي صلى الله عليه وسلم” عد من مات بالحرق شهيداً.

وقد بين النووي رحمه الله رأي العلماء في سبب إطلاق الشهادة على هذه الميتات أنه راجع إلى شدة ما فيه من الألم مما يكفر الله به الذنوب.

هذا وينبغي أن نعلم أخوة الإسلام أن للشهيد ثلاث أقسام أو مراتب، أولهم: الشهيد في ساحة القتال في مواجهة الكفار وبسبب من أسباب القتال، وهذا أعلى الشهداء مرتبة فهو يجمع بين أحكام الشهيد في الدنيا المتعلقة بعدم الغُسل ولا التكفين، وثواب الآخرة مما ورد في ما أعد للشهداء.

وثانيهم: شهيد الآخرة وهو من ورد وصفهم بالشهداء على سبيل المجاز والتفضل عليهم من الله عز وجل مثل المبطون والمطعون ومن مات دون ماله أو عرضه وغيرهم مما نصت عليه الأحاديث، ويمكن القول أن هؤلاء هم الشهداء في غير ساحة القتال، فقد وعدهم الله عز وجل بثواب الشهداء ولكن لا تسري عليهم أحكام الشهيد في الغسل أو الكفن.

وثالثهم: هو شهيد الدنيا، وهو من مات في ساحة القتال ولكنه ارتكب ما ينزع عنه صفة الشهيد مثل من غل في الغنيمة، فهو يطبق عليه أحكام الشهيد فلا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولكن ليس له أجر الشهيد في الآخرة، والله أعلم.

هذا وللشهيد أحكام قاصرة عليه دون غيره من الموتى، ولعل من أهم الخصوصيات التي جعلها الله للشهيد دون غيره ما يتعلق من أحكام الغسل والكفن، فبينما يجب تغسيل الميت وتكفينه والصلاة عليه، فإن هذا الحكم يسقط عن الشهيد فلا يغسل ولا يكفن بكفن بل يغطى بثيابه ولا تغسل عنه دمائه، ولا يصلى عليه، ويدفن على ما مات عليه، ولعل علة هذه الأحكام أن الله عز وجل أمرنا أن لا نعد الشهيد ميتاً، وأكد أنه حي يرزق وأن روحه تتنعم في جوار الله عز وجل، فكان الغسل والكفن والصلاة وهم من أحكام الموتى مناف لاعتبارهم أحياء ومناقض لانتفاء الموت عنهم، وهذا كرامة للشهيد وتعزيزاً له وإعلاءً لقدره وهو في أولى منازل الآخرة.

أقول قولي هذا واستعفر الله لي ولكم

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبيه الكريم، خير الخلق وخاتم المرسلين ثم أما بعد: فبعد أن تعرفنا على مفهوم الشهادة ومعناها وأصناف الشهداء ومراتبهم يجدر بنا الحديث عن منزلة الشهداء عند الله وما أعد لهم من الثواب العظيم والفضل الكريم، والمقام الرفيع ولأن الله عز وجل لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى، ولأنه كريم وشكور فإنه يعلم عظم التضحية التي يبذلها الشهيد، فهو يضحي بأغلى ما يملك روحه وحياته ويختار رضا ربه، يبيع الدنيا ومتاعها وزينتها وقرب الأهل والأحباب والأنس بالولد والأخلاء ويختار رحاب الله وجواره، فوالله لقد ربح البيع وفاز المتقون يقول جل وعلا: ((إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيقْتُلُونَ وَيقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيعِكُمُ الَّذِي بَايعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

ولأجل ذلك فقد أعد الله للشهيد من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فأكرمه أول ما أكرمه ومع نزول أول قطرات من دمه بخصال ومزايا لم يجعلها لأحد غيره، وبلغه منزلة من القرب لا ينالها غيره فغفر له ذنوبه ويرى ما أعده الله من مقام بالجنة، ويزينه بحلة الإيمان، ويزوجه بالحور العين، ويؤمنه من فزع يوم القيامة ويرزقه الشفاعة لسبعين من أهله وذويه، يقول “صلى الله عليه وسلم” : (للشهيد عند الله ست خِصال: يُغفر له في أول دَفعة ويَرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبرِ، ويوضع على رأسه تاج الوقار؛ الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحورِ العِين، ويشفّع في سبعين من أقاربه).

ومن أفضل نعم الله على الشهيد أن يعفى من سكرات الموت وعذابه حيث يقول رسول الله “صلى الله عليه وسلم”: (ما يجدُ الشَّهيدُ من مسِّ القتلِ إلَّا كما يجدُ أحدُكُم من مَسِّ القرصةِ).

ويزيد الله في فضله على الشهيد ويعظم له الأجر، فلا ينقطع عمله بعد موته بل يكتب له الأجر كما لو كان حياً وهذا ما أخبر به النبي “صلى الله عليه وسلم “في حديث فضالة بن عبيد عن النبي أنه قال: (كلُّ ميِّتٍ يُختَمُ على عملِهِ إلَّا الَّذي ماتَ مرابطاً في سبيلِ اللهِ؛ فإنَّهُ ينمي لَهُ عملُهُ إلى يومِ القيامةِ، ويأمنُ فتنةِ القبرِ).

ثم يكتب الله للشهيد الحياة رغم موت جسده ومفارقته لأهله ودنياه، فيحيا منعماً مكرماً في جوار الله عز وجل، وقد غمره الله بالبشرى والفرحة وأغدق عليه من نعمه وفضله ما لا يعلم حده إلا الله ولا يحيط بعظمته سواه وهو القائل: ((وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ).

ثم يمن الله على الشهيد برفقة النبيين والصديقي، ويمنحه المنزلة العظيمة والمكانة المشرفة في الآخرة فيقول جل وعلا: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا).

يجعل الله للشهداء الفردوس الأعلى من الجنة، وهو أعلى مقامات الجنة وأكرم منازل النعيم لا ينالها إلا من أفلح وكان ذو حظ عظيم، وهذا ما بشر النبي به أم حارثة بن شرافة حين جاءته تسأل عن حال ولدها الشهيد، فقالت: (يا نَبيَّ اللَّهِ، ألا تُحدِّثُني عن حارثَةَ، وكان قُتِلَ يومَ بَدرٍ، أصابَهُ سهمٌ غَرْبٌ فإن كان في الجنةِ صَبَرتُ، وإنْ كان غيرَ ذلك، اجتَهَدتُ عليهِ في البُكاءِ؟ قال: يا أُمَّ حارثَةَ إنها جِنانٌ في الجنَّةِ، وإنَّ ابنَكِ أصابَ الفِردَوسَ الأعْلَى).

وختاماً نسأل الله العظيم أن يرزقنا منازل الشهداء ويكتب لنا أجرهم، ويحشرنا في زمرتهم. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم وأقِم الصلاة.

أضف تعليق

error: