خطبة: الإحسان في المعاملة

خطبة: الإحسان في المعاملة

ويستمر السَّعي من أجل تقديم المزيد من الخطب المنبريَّة التي يبحث عنها مُعظَم –أو كُل– الخطباء. وهذه المرَّة مع خطبة: الإحسان في المعاملة. وهي التي قدَّمنا خُطبًا غير مُباشِرة عنها فيما سبق. لكِن الآن هي بيت القَصيد فعلا.

عناصر الخطبة

  • الإحسان في المعاملة من مقاصد الشريعة الإسلامية ودليل على رقيها.
  • الإحسان في المعاملة يؤدي إلى تماسك بنيان المجتمع وحمايته من الخراب والتهلكة ووقايته من الآفات الاجتماعية.
  • أوجبت الشريعة الإسلامية الإحسان في المعاملة إلى المسلمين وغيرهم.
  • مظاهر من إحسان النبي ﷺ إلى المسلمين وإلى غيرهم.

الخطبة الأولى

الحمد لله..

يقول الله ﷻ: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.

فالإحسان من مقاصد ديننا، ومن معالم منهج إسلامنا، وهو نتيجة الترقي في مراتب العبودية لله ﷻ من إسلام إلى إيمان ليبلغ المؤمن درجة الإحسان فيكون محسناً في كل شؤونه وأحواله، في عمله ووظيفته، وفي بيته، وعلاقاته مع الناس ومكونات الكون، وصلته بربه ودينه، وعيشه في وطنه، فيصير شعار حياته الإحسان متمثلاً قول النبي ﷺ: « الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

والإحسان جزء أساسي من الدين لا بدّ للمسلم أن يلتزم به في جميع شؤون حياته لقول الله ﷻ ويقول: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾، وقول النبي ﷺ« إن الله كتب الإحسان على كل شيء».

وخلق الإحسان واسع شامل، يدخل في مناحي الحياة ومجالاتها المختلفة، حيث يشكل أساساً من أسس التعاون والترابط، فإن من تأمّل الآيات الكريمة والأحاديث الشّريفة الواردة في الإحسان يتّضح بجلاء أنّ الإحسان يشكّل مع العدل جوهر العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وأنّ دائرة هذا الإحسان تتّسع لتشمل النّفس والأسرة والأقارب، ثمّ المجتمع والإنسانيّة عامّة.

عباد الله: إن للإحسان مراتب، فالإحسان إلى النّفس مرتبة أولى، قال ﷻ: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها﴾.

أمّا المرتبة الثانية فتشمل الوالدين، قال ﷻ: ﴿وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً﴾.

وفيما يتعلّق بالأقارب وهي المرتبة الثّالثة، فإنّها تشمل قرابة النّسب وقرابة الجوار وقد ورد الحثّ عليها في قوله ﷻ: ﴿وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ﴾.

أمّا المرتبة الرّابعة وهي أوسع من سابقاتها، فإنّها تضمّ المجتمع الّذي يعيش فيه الإنسان، والإحسان هنا ينصبّ أساسا على الجانب الضّعيف في المجتمع كاليتامى والمساكين وأبناء السّبيل ومن على شاكلتهم، يقول الله ﷻ: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً﴾.

أمّا المرتبة الخامسة وهي الأوسع والأرحب في العلاقات الإنسانيّة فتشمل الإحسان إلى جميع الناس مهما اختلف دينهم أو عقيدتهم، وهذا ما يشير إليه قوله ﷻ: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.

وقوله ﷺ: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء».

ويمكننا أن نضيف إلى ذلك دائرة أكثر شمولا من العلاقة السّابقة، ألا وهي دائرة الحياة بكلّ ما فيها من نبات أو حيوان أو جماد وإلى ذلك يشير قول الله ﷻ: ﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

أحسنْ إلى الناسِ تَسْتَعبِدْ قلوبَهمُ
فطالما استعبدَ الإنسانَ إِحسانُ

من جادَ بالمالِ مالَ الناسُ قاطبةً
إليه والمالُ للإنسانِ فتانُ

أَحْسِنْ إِذا كانَ إِمكانٌ وَمَقْدِرَةٌ
فلن يدومَ على الإِنسانِ إِمكانُ

ومن الإحسان أن يتجمل الإنسان بالحسن والإحسان في انتمائه لأهله ووطنه والتميز في مجالات الخدمة ومواقع المسؤولية ليغدو الوطن بأهله أحسن حالاً وأفضل مآلاً.

واعلموا عباد الله أن ثمرات الإحسان عظيمة كثيرة، تتجلى في تنزّل الرحمات من الله ﷻ، فمن أحسن إلى الناس، أحسن الله إليه، وقد أخبر الله ﷻ أن رحمته قريبة المحسنين: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾، كما يؤدي الإحسان إلى الآخرين إلى تماسك بنيان المجتمع وحمايته من الخراب والتهلكة ووقايته من الآفات الاجتماعية، فهو وسيلة المجتمع للرقي والتقدم، يقول النبي ﷺ: «لا يؤمن أحدكم، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، فالمحبة بين أفراد المجتمع تؤدي إلى توثيق روابط المجتمع وحمايته من مظاهر العداوة والبغضاء والتطرف في الأقوال والأفعال.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

عباد الله: إن خُلق الإحسان الذي أمر به الله ﷻ ليس مقصوراً على معاملة المسلمين فيما بينهم فحسب، بل أمر الله ﷻ بالإحسان إلى غير المسلمين، وأن تكون العلاقة في المجتمع قائمة على البر والرحمة والتعاون، فقال الله ﷻ: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.

ونبينا ﷺ الذي هو قدوتنا، كان أرحم الناس، وأكثرهم إحساناً ورأفةً بالمخالفين له، وهو عليه الصلاة والسلام رغم كثرة ما تعرض له من أذى قومه، إلا أنه كان يدعو لهم ويقول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ».

وقد جاءه يهودي يوماً يطلب ديناً له، فقال: ألا تقضيني –يا محمد– حقي؟ فوالله إنكم –يا بني عبد المطلب– قوم مطل، ولقد كان لي بمخالطتكم علم!! قال: ونظرتُ إلى عمر بن الخطاب وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير، ثم رماني ببصره وقال: أي عدو الله، أتقول لرسول الله ما أسمع، وتفعل به ما أرى؟! فوالذي بعثه بالحق، لولا ما أحاذر فَوْتَهُ لضربت بسيفي هذا عنقك. ورسول الله ينظر إلى عمر في سكون وتؤودة، ثم قال: «يَا عُمَرُ، أَنَا وَهُوَ كُنَّا أَحْوَجَ إِلَى غَيْرِ هَذَا؛ أَنْ تَأْمُرَنِي بِحُسْنِ الأَدَاءِ، وتَأْمُرَهُ بِحُسْنِ التِّبَاعَةِ، اذْهَبْ بِهِ يَا عُمَرُ فَاقْضِهِ حَقَّهُ، وَزِدْهُ عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ مَكَانَ مَا رُعْتَهُ». قال زيد: فذهب بي عمر فقضاني حقي، وزادني عشرين صاعًا من تمر، فقلت: ما هذه الزيادة؟ قال: أمرني رسول الله أن أزيدك مكان ما رُعْتُكَ. فقلت: أتعرفني يا عمر؟ قال: لا، فمن أنت؟ قلت: أنا زيد بن سعنة. قال: الحبر؟ قلت: نعم، الحبر. قال: فما دعاك أن تقول لرسول الله ما قلت، وتفعل به ما فعلت؟ فقلت: يا عمر، كل علامات النبوة قد عرفتُها في وجه رسول الله حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أختبرهما منه: يسبق حلمُه جهلَه، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا، فقد اختبرتهما، فأُشهدك –يا عمر– أني قد رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا، وأشهدك أن شطر مالي –فإني أكثرها مالاً– صدقة على أمة محمد، فقال عمر: أو على بعضهم؛ فإنك لا تسعهم كلهم. قلت: أو على بعضهم. فرجع عمر وزيد إلى رسول الله، فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله.

والحمد لله رب العالمين..

المزيد من الخُطَب.. هنا:

والله وليّ التوفيق..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error:
Scroll to Top