التعريف بمنهج القرآن في سلوك المسلم

تمت الكتابة بواسطة:

التعريف بمنهج القرآن في سلوك المسلم

يقول الله ﷻ: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا} (الإسراء: ٩). فقد أدرك السلف الصالح رحمهم الله أن من فقه العبادة تعلم أربع مسائل والتفقه فيها والعمل بموجبها وهي: العلم، والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على الأذى فيه، ذلك منهج القرآن، يقول الله ﷻ: {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم، وهذه المسائل هي:

المسألة الأولى: العلم

يقول الله ﷻ: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب} (الزمر: ٩). ويقول الله ﷻ: {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ إن الله عزيز غفور} (فاطر: ٢٨). وترجم الإمام البخاري -رحمه الله ﷻ-: باب العلم قبل القول والعمل لقوله ﷻ: {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم} (محمد: ١٩). فبدأ بالعلم قبل القول والعمل» وفي السنن: «ومن سلك طريقا يطلب به علما سهل الله له طريقا إلى الجنة».

وأعظم العلم وأهمه ما يلي:

أولا: العلم بحق الله ﷻ

فهناك من يخلط بين حق الله وحق العباد. فالله ﷻ هو المعبود المسؤول المستعان به الذي يُخَافُ ويُحب ويُرْجَى ويُتوكل عليه ويُفرد بالعبادة. وقد أخذ الله علينا هذا العهد قبل الوجود: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} (الأعراف: ١٧٢-١٧٣).

وألزمنا الإقرار بهذا العهد نكرره في كل صلاة بفاتحة الكتاب: {إياك نعبد وإياك نستعين} والله المختص بعلم الغيب: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله} (النمل: ٦٥)، ولم يكن ذلك لغيره والله يأمر نبيه: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي} (الأنعام: ٥٠)، وجعل الطاعة له ولرسوله، قال ﷻ: {وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون} (آل عمران: ١٣٢) وأما الخشية والتقوى فلله وحده لا شريك له، قال ﷻ: {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون} (النور: ٥٢).

وأضاف الإيتاء إلى الله والرسول، قال ﷻ: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (الحشر: ٧).

فليس لأحد أن يأخذ إلا ما أباحه الرسول، أما العطاء فإنه لله يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء؛ ولهذا كان ﷺ يقول في الاعتدال من الركوع وبعد السلام: «اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» متفق عليه، أي من آتيته جدا وهو (البخت والمال والملك) فإنه لا ينجيه منك إلا الإيمان والتقوى والإخلاص، وقال: {إنا إلى ربنا راغبون} (القلم: ٣٢).

ولم يقولوا هنا: ورسوله، وهو نظير قوله: {فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب} (الشرح: ٧-٨) وبيّن أن الملك والأمر كله لله: {ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير} (المائدة: ٤٠).

وليس لغيره شيء، فعندما دعا رسول الله ﷺ على بعضهم أنزل الله ﷻ: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} (آل عمران: ١٢٨) وقول الله ﷻ: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين} (القصص: ٥٦).

وأما التوكل فعلى الله وحده، قال ﷻ: {ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير} (الممتحنة: ٤)، وقال ﷻ: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} (آل عمران: ١٧٣).

وقال ﷻ: {يأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} (الأنفال: ٦٤)، أي الله وحده حسبك وحسب المؤمنين الذين اتبعوك، فالله وحده هو حسب كل مؤمن به.

والحسب: الكافي، كما قال ﷻ: {أليس الله بكاف عبده} (الزمر: ٣٦).

ولله ﷻ حق لا يشركه فيه مخلوق، فالدعاء والعبادات والإخلاص والتوكل والخوف والرجاء والحج والصلاة والزكاة والصيام والصدقة، والإنابة والمحبة، والاستعانة، والاستعاذة، والاستغاثة، والنذر، والتضرع، والذبح والنسك واستقبال الكعبة والطواف بها، لا بغيرها، وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها تُصرف كلها لله ﷻ وحده فهي حق لله وحده.

وقد تفضل الله وجعل لعباده حقا عليه، ففي الصحيحين عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: «كنت رديف النبي ﷺ على حمار، فقال لي: «يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله»؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله: ألا يعذب من لا يشرك به شيئا». قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: «لا تبشرهم فيتكلوا» متفق عليه.

ثانيا: العلم بحق الرسول ﷺ

فأعظمه الإيمان به وطاعته: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} (النساء: ٦٤). واتباع سنته وموالاة من يواليه ومعاداة من يعاديه وتقديمه في المحبة على الأهل والمال والنفس كما قال ﷻ: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} (التوبة: ٢٤)، وفي الصحيحين أنه ﷺ قال: «فو الذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» متفق عليه، وحقه: مرضاته، قال ﷻ: {والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين} (التوبة: ٦٢) وعلى المؤمنين الاقتداء به بالبلاغ حسب العلم والاستطاعة، والمسؤولية.

والصلاة والسلام على النبي ﷺ مشروعة قال ﷻ: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} (الأحزاب: ٥٦)، وفي الصحيح عن جابر بن عبدالله أن رسول الله ﷺ «قال: من قال حين يسمع النداء: «اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة» وفيه: «من صلى عليّ مرة صلى الله عليه بها عشرا».

ورفع الصوت في المساجد منهي عنه وفي مسجده ﷺ أشد.

والمشروع عند السلام عليه: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.

وفي تفسير ابن كثير (٣/٥١٦) وغيره: عن الحسن بن الحسن بن علي شيخ الحسنيين في زمنه، أنه رأى قوما عند القبر فنهاهم وقال إن النبي ﷺ قال: «لا تتخذوا قبري عيدا ولا تجعلوا بيوتكم قبورا وحيثما كنتم فصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني» رواه أحمد، وروي أنه رأى رجلا ينتاب القبر فقال: يا هذا ما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء.ك ولهذا كان السلف يكثرون الصلاة والسلام عليه في معظم الأماكن والأزمنة.

ولم يكونوا يجتمعون عند قبره ﷺ ولا غيره، لا لقراءة ختمة ولا إنشاد قصائد ولا نحو ذلك، بل هذا كله من البدع، بل كان الصحابة والتابعون يفعلون في مسجده ما هو المشروع في سائر المساجد من الصلاة والذكر والدعاء لله والاعتكاف وتعلم القرآن والعلم وتعليمه ونحو ذلك، وقد علموا أن النبي ﷺ له مثل أجر كل عمل صالح تعمله أمته؛ فمن كان له أطوع وأتبع كان أولى الناس به في الدنيا والآخرة: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} (الأحزاب: ٦).

فقد بلغ أمر الله ونهيه ووعده ووعيده، فدين الله ما أمر به والحلال ما حلله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه، وقد أمر الله بمتابعته فقال: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} (آل عمران: ٧٩) وقوله حق: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} (النجم: ٣-٤)، وبعثه الله للناس كافة: {قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا}ـ (الأعراف: ١٥٨) وهو رحمة للعالمين: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء: ١٠٧).

والرسول ﷺ توفي ودينه باق، لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه، فأعظم خير هو توحيد الله، وأعظم شر هو الشرك بالله: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} (التوبة: ١٢٨).

وهو رسول بشر كسائر الرسل: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} (آل عمران: ١٤٤)، وهو خاتم النبيين: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما} (الأحزاب: ٤٠)، أكمل الله به الدين فلا يقبل من غيره بعد موته ﷺ زيادة ولا نقصا لقوله ﷻ: {اليوم أكملت لكم دينكم} (المائدة: ٣).

ثالثا: العلم بحق الإسلام والإيمان والإحسان

  1. فحق الإسلام واضح من التعريف بالإسلام وهو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله، وهو دين الله ودين الرسل ولن يقبل من أحد سواه: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} (آل عمران: ٨٥)، والإيمان بأن الله أكمله، وأتم به نعمته ورضيه لعباده دينا، يقول الله ﷻ: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} (المائدة: ٣).
  2. وأما حق الإيمان: فالدين اسم واقع على الإسلام والإيمان والشرائع كلها، فالعمل بالصالحات هو ما شرعه الله، وشرط قبوله الإيمان: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما} (طه: ١١٢). والناس ليسوا سواء في الإيمان بل يتفاوتون فيه، فهو يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية؛ قال الله ﷻ: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا} (التوبة: ١٢٤). والإيمان يقرب ويبعد بالقول والمعتقد: {هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون} (آل عمران: ١٦٧).
  3. وأما حق الإحسان: فهو «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ونتائجه عظيمة، منها قوله ﷻ: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} (يونس: ٢٦)، ووصية الله: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} (البقرة: ١٩٥).

المسألة الثانية: العمل بما علم به

وهو المراد بقوله: {وعملوا الصالحات} وهنا أمور عدة:

  1. أن الإيمان مرتبط بالعمل بالإسلام، يقول الله ﷻ: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (الأحقاف: ١٣) أي علموا فأمنوا فعملوا.
  2. لا قبول لعمل إلا بنية ومحلها القلب بالقصد والإرادة، يقول الله ﷻ: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحوا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا} (الإسراء: ١٨-١٩). وفي الصحيحين عنه ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى…» الحديث.
  3. أن يكون العمل على علم وبصيرة فالدين مبني على أصلين: الإخلاص في عبادة الله وحده لا شريك له، ولا يعبد إلا بما شرع لا بالبدع قال ﷻ: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} (الكهف: ١١٠)، ومن دعاء عمر -رضي الله عنه-: اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل فيه لأحد شيئا. وقال الفضيل بن عياض في قوله ﷻ: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} (الملك: ٢) إن العمل.. لن يقبل حتى يكون خالصا لله صوابا على السنة، وفق ما شرع الله.

المسألة الثالثة: الدعوة إلى ما علمه من الحق وعمل به

«وهو التواصي بالحق، ويقول الله ﷻ: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين} (يوسف: ١٠٨).

ويقول الله ﷻ: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين} (فصلت: ٣٣).

المسألة الرابعة: الصبر على الأذى فيه وهو التواصي بالصبر

يقول الله ﷻ: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} (آل عمران: ١٤٢) ويقول الله ﷻ: {ولقد كُذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كُذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين} (الأنعام: ٣٤).

ومن أقوال الإمام أحمد رحمه الله: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى.

فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجموعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبّهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين.


التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: