قصة قصيرة للكبار | اُحْزُمْ وقتك واستعد للمتعة

أتدري أيها القارئ المُتلهّف لهذه القصة؛ إنها فعلا قصة قصيرة للكبار -البالغين-؛ لكنك ستقرأ هنا ما قد يجعلك تُفكر مليًا في ما ستقرأ وتشعر؛ أعِدك بهذا يا صديقي.


يخترق السهل الأخضر عدوا كالسهم.. إنه خفيف.. رشيق.. يعدو كما لم يعدو من قبل.. يلمس الأرض بأطراف أصابعه.. يضرب الهواء وجهه ويملا رئتيه فيشعر كأنه مذنب يخترق الفضاء.

إنه سعيد.. يدير عينيه في أرجاء السهل الأخضر بحثا عنها، فيراها تقترب من بعيد طيف أسود تتضح ملامحه بالتدريج.

وكلما اقتربت اضطربت ضربات قلبه وامتلأ سعادة.

الآن يرها بوضوح تقبل عليه كغزال رشيق.. تختال فوق السهل ترفع تنورتها الطويلة عن الأرض وتبتسم له.. تبتسم له وحده.. إنها هي كما تخيلها دائما.

حسناء.. رشيقة.. تعدو باتجاهه وعبير الهواء يداعب شعرها الحريري الثائر.. وتبتسم.

فتح عينيه ليحدق في سقف الغرفة المظلمة ويتنفس بعمق.

تلاعبت على شفتيه ابتسامة خفيفة.. وحاول أن يعود للنوم مرة أخرى حتى يكمل حلمه ولكنه لم يستطع.. كثيرا ما يطرق هذا الحلم أبواب عقله الباطن.. ولكنه لم يستطع أن يكمله قط.

أزاح الغطاء وحملق فيما تبقى من قدماه وهو يعض شفتيه ويغمغم: الحمد لله.. الحمد لله.

إنه في التاسعة والعشرين حان الوقت أن يتزوج.. كثيرا ما كان يهرب من هذه اللحظة ولكن يبدوا أنه لا مفر منها.. (الزواج) تترد الكلمة كثيرا هذه الأيام على ألسنة كل من حوله وفي رأسه هو أيضا.

أنه يريد ذلك ولكنه قلق هل هو حقا جدير بذلك؟

وأمه وأباه جفَّ حلقهم بهذه الكلمة، كثيرا ما يشفق عليهم، إنهم لم ينجبوا غيره، أمه تحلم باليوم الذي سيتزوج فيه.

وقبل أن يغلبه الغم نهض عن الفراش وهو يزفر ضيقا فحتى الحلم لم يستطع إكماله.

بعد أسبوع قال لأبيه وهو يتوقع الرد: أبى.. أنا نويت أتزوج.

يرفع الأب عينيه عن الجريدة ويبتسم: أخيرا يا إسماعيل.. الحمد لله أنك نويت، أمك هتطير من الفرح.

ويُنادي.. أم (إسماعيل).. يا أم (إسماعيل) تعالي.. ابنك هيتجوز أخيرًا.

أقبلت أمه لتعانقه وهي تبعد يديها المليء بصلصة الطماطم..: ألف مبارك يا بني.. الحمد لله أنى هاعيش واشوفك عريس.

عانقها وهو سعيد ليس لأنه سيتزوج وإنما لأن أمه ستسعد بزواجه.

قالت أمه وهي تمسح يديها بمنشفة: عروستك عليه أنا.. أمك تفهم كويس في الأمور دي.

كان ينتظر هذه الكلمات أيضًا.. ويعرف أن أمه ستختار له أجمل بنات الحي لمجرد أنه ابنها دون أن تنظر إلى إعاقته ولأنه لا يتحمل أن يرفض من أي امرأة، قال: لا يا أمي.. أنا هاتجوز (سعاد) بنت عم كامل.

ضربت الأم صدرها بيدها.. (سعاد!) بنت كامل.. ليه يا علي؟ ليه يا ابني؟ مفيش بنات غيرها؟.

أشاح بوجهه عنها وامتدت يداه لتدير عجلات كرسيه المتحرك نحو غرفته هربا من مواجهة أمه؛ دخل الغرفة واغلق الباب خلفه.

التمعت الدموع في عيني الأم؛ فقال لها الأب: يا (عائشة).. هو اللى هيتجوز مش انتى، سيبيه يعمل إلى هو عايزه.

ورمق باب الغرفة بنظره طويلة صامتة.

إنه أكثر من يفهم ابنه

يجلس مع (سعاد) في بيتها، يتفقان على تفاصيل الزفاف.. إنها الآن خطيبته.

كانت محاولته الأولى للزواج هي الأخيرة ليس لأنه عريس لا يرفض ولكنه أحسن اختيار الفتاة التي لن ترفضه رغم إعاقته.. فهي فتاه ليست بفاتنة، مؤهل متوسط، أسرتها بسيطة إلى الفقر أقرب.

رغم أنه لم يرد أن يتزوجها إلا ليسعد أمه وتراه عريس قبل أن تموت كما كانت تقول دائما، إلا إن بذرة الحب بدأت تنضج في قلبه؛ وجهها مريح للعين وملامحها هادئة، طيبة القلب وترضى بأقل القليل؛ إنها تماما كما يقولون (بنت حلال).

ولأول مرة بدأ يشعر بحنان امرأة غير أمه، إنها حقا تحبه، تسأله عن أدق التفاصيل، وتبكي إن تأخر عليها، إنها تستحق حبه حقا، وعليه أن يكف عن اعتبارها صورة من فشله في الزواج بالمرأة التي يتمنى.

وبعد شهر آخر.. أيقن أنه أحبها بجنون، لم يكن يتخيل أن يحب فتاة مثلها، ولكن لم يوجد الإنسان الذي تغمره حبًا وحنانًا ولا ينبض قلبه لك.. وإلا ما هو بإنسان.

وبدأ يرى الحياة بشكل آخر.. ويرى مستقبله ينبض بالأمل، ولذلك قرر أن يعيش كأي إنسان وتخلى عن شعوره الدائم بالنقص.

جاهد لكي يبتسم فلا يبدو سمجا في ليله زفافه؛ ولكنه لم يستطع التغلب على شعوره بالحرج أمام كل هذا الجمع، والمشكلة أن كل هؤلاء جاءوا فقط كي يتابعوه هو وزوجه. يشعر كأنه حشرة تحت المجهر تتأملها عين عملاقة وقِحة.

بالطبع لم يرد كل هذا الجمع من المتطفلين.. كأنهم جاءوا إلى السيرك ليروا الرجل المقعد يتزوج. ولكن ماذا يفعل! فلن تكتمل فرحه أمه إلا بهذا الشكل، وكذلك (سعاد) لا بد لها أن تشعر بأنها عروس.

الآن هم في محل التصوير فلابد من صور تذكارية لهذا الحدث الجليل. قابلهم صاحب المحل بابتسامة مفتعلة، وقادهم إلى صالة التصوير. يشعر أنه رأى الرجل من قبل ولكنه لا يتذكر أين.. قضى ساعة تحت أضواء الفلاش حاول فيها قدر الإمكان أن يداري إعاقته عن عدسه الكاميرا الفضولية المقتحمة.

إنه سعيد.. لكن لم يكن يحب أن يحول زفافه إلى فيلم هو بطله فتتعلق كل الأنظار به.

في ليله ممطرة مر بدراجته المجهزة للمعاقين من أمام محل التصوير فتذكر ليلة زفافه. ألقى بنظرة على المحل وتلاعبت على ثغره ابتسامة. حتى اصطدمت عيناه بمنظر آذاه كثيرا.. شعر بأنه لم يرى جيدا فأقترب ليرى أفضل!

حقا لم يكن مخطئ؛ أنها صورة زفافه تتوسط واجهة العرض بالمحل؛ صورة كبيرة من صور زفافه فيها يجلس وقد طوي أطراف البنطال تحته وتدلت إحداها على الأرض فتجلت عاهته، وزوجته خلفه، قد طوقت صدره بذراعيها مبتسمة.

شعر بالغيظ يملأ قلبه..

تبًا لهذا الرجل، لماذا وضع هذه الصورة بالذات؟ هناك صور أخرى لم تظهر فيها عاهته، الوغد؛ لقد تعمد ذلك. كان يجب عليه أن يستأذنه أولا.

تحرك بعربته وقد اشتعل غضبا، يشعر بغصة في حلقه ويضيق صدره غضبًا.

الآن هو أمام المحل يصرخ بأعلى صوته مُناديا..

يخرج له ذات الرجل السمج صاحب الابتسامة المفتعلة، ليقول –وهو يرسم نفس الابتسامة المستفزة-: نعم.. عاير إيه؟

فقال له: من سمح لك تحط الصورة دي هنا؟

فرَد: وهو لازم حد يسمح لي! الصورة حلوة ومعمول فيها شغل.

تدفق الدم إلى رأسه غضبا وقال –من بين أسنانه-: انت مبتفهمش يا أخي؟ هو من في الصورة؛ أنا ولا أنت؟

يرد بلا مبالاة –والمصيبة أنه مبتسم-: أنت طبعًا.

أضف تعليق

error: