القيم الإنسانية في سورة الحجرات

اقرأ عن خطبة الجمعة القادمة - القيم الإنسانية في سورة الحجرات

عنوان خطبة الجمعة معنا اليون: القيم الإنسانية في سورة الحجرات. وهنا سوف نوفّر لكم الخطبة مكتوبة، لمساعدتكم على التميّز.

مقدمة الخطبة

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره، واهتدى بهديه، واستن بسنته، وسار على نهجه، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله ملئ الأرض والسموات، والحمد لله الذي اطلع على الزلات فسترها، وعلم السيئات فغفرها، وأحاط بالكربات فكشفها، وسبحان الله ، الطير سبحه والوحش مجّده والموج كبره والحوت ناجاه،، والنمل تحت الصخر الأصم قدسه والنحل يهتف حمداً في خلاياه، الناس يعصونه جهراً فيسترهم والعبد ينسى وربي ليس ينساه.

وأشهد أن لا إلا اله إلا الله وحده، مفرج الكربات، ومقيل العثرات، ومنزل الرحمات، وسامح الأصوات وكاسي العظام لحما بعد الممات، وهادي الحائرين في لجج الظلمات، بيده خزائن الرحمة والبركات.

الخطبة الأولى

ثم أما بعد: فإن الله عز وجل إنما أنزل إلينا كتاباً مبيناً هادياً إلى الحق وحسن الخلق، بنوره تنكشف الظلمات ويتبين الحق من الباطل، وبفضله تستقيم الحياة، وتقوى العلائق، وجعل في اتباعه صلاح وفلاح ونجاح في الدنيا والآخرة، وقد وضع لنا فيه منهجاً في علاج مشكلاتنا، وشفاء أمراضنا النفسية والاجتماعية والسلوكية، بل والبدنية أيضاً فهو القائل في سورة فصلت : ({قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ}، والقائل في بعض آيات سورة يونس: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)، ولعل المتأمل في سور القرآن الكريم وآياته يلمس ما فيه من الشمول والتمام والكمال، ويرى أن بعض سور القرآن الكريم ركزت على علاج قضايا عقائدية وتوحيدية، وبعضها انطوى على تقويم وتزكية وترغيب وترهيب لمن هم أهل الدعوى، وبعضها عالج قضايا نفسية واهتم بإصلاح القلوب وتحرير النفوس من أغلال الأحقاد والحسد وأمراض القلوب المتعددة، في حين ركز بعضها على علاج القضايا السلوكية ووضع ضوابط وأطر للعلاقات الانسانية وأرسى قيماً اجتماعية ينصلح بها حال الأمة وتتعافى بها من أسقامها ومتاعبها، ومن تلك السور التي أولت هذا الجانب اهتماماً كبيراً وسلطت عليه الضوء بصورة مكثفة سورة الحجرات، وهي سورة مدنية نزلت على النبي “صلى الله عليه وسلم” في العام التاسع بعد الهجرة، آياتها ثماني عشرة آية.

تضمنت سورة الحجرات طائفة من التوجيهات الأخلاقية والسلوكية التي تنظم علاقة الناس ببعضهم، وتعمق قيم الاحترام والرقي في التعامل، وهنا سوف نتعرض للحديث عن أهم القيم الإنسانية في سورة الحجرات والله الموفق والمستعان.

والمتأمل في سورة الحجرات وآياتها يدرك كيف عالجت السورة قضايا أخلاقية متعلقة بآداب التعامل مع الناس عامة ومع النبي “صلى الله عليه وسلم خاصة” وكيف وجهت المسلمين إلى ما يجب فعله عند التعرض للخلافات أو الفتن، وكيف أرست مبادئ حسن الظن واحترام الخصوصية واحترام الانسانية ونبذت العنصرية بكل صورها.

فنجد أن السورة الكريمة بدأت أو ل ما بدأت بوضع ضوابط للاحترام والإجلال والتقدير للنبي “عليه الصلاة والسلام” وعلمت المسلمين آداب التعامل معه، ونهتهم عن التجاوزات التي كانت تصدر منهم دون علم، ومنها التسرع أو سبق النبي “صلى الله عليه وسلم” في بعض الأمور، ورفع الصوت في حضرته، ومناداته من وراء الحجرات يقول جل وعلا في الآيات الأول من السورة الكريمة: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ، إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ، إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

وقد نزلت الآية الأولى فيما يروى عن عبد الله بن الزبير أنه قال: جاء ركب من بني تميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر ما أردت إلا خلاقي، فقال عمر: ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزلت الآية الكريمة تنهى عن هذا الأمر.

أما الآية الثانية فنزلت كما قال قتادة لأن الناس كانوا يجهرون بالقول ويرفعن الأصوات بين يدي حضرة المصطفى “صلى الله عليه وسلم” فنهتهم الآيات عن ذلك.

ونزلت الآيتين الثالثة والرابعة في قوم من العرب جاءوا إلى النبي “صلى الله عليه وسلم”، فجعلوا ينادونه، يا محمد، يا محمد من وراء الحجرات فأساء فعلهم النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم تطرقت السورة الكريمة إلى معالجة قضية أو موقف يعرض لنا جميعاً، على مستوى الأفراد والمجتمعات وهو أن يأتي فاسق بنبأ أو اتهام أو شائعة يبتغي بها اشعال الفتن والوقيعة بين الناس، وملئ الصدور بالحنق والضيق والسخط، فوجهنا القرآن الكريم في كلمات قصيرة المبنى عظيمة المعنى إلى ما يجب فعله في مثل هذه المواقف، وهو التثبت والتقصي والبحث عن الحقيقة قبل اتخاذ أي رد فعل متهور أو أهوج، فقد يتسبب التسرع في الغضب أو الانتقام في خسائر كبيرة في العلاقات وإحداث شروخ لا تلتئم مرة أخرى، يقول عز وجل في الآية السادسة من السورة الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)، ولعمري فإن في هذا التوجيه الرباني القويم حفظ للعلاقات، وحماية للقلوب من الأحقاد، وعافية لها من الظلم والمشاحنات.

ثم تنتقل السورة الكريمة لتسلط الضوء على أمر غاية في الأهمية، وحل لمشكلة قد نتعرض لها في أي وقت، وتبين لنا التصرف الصحيح والفعل المنضبط الذي يجب القيام به تجاها، وهذا الموقف هو حدوث فتنة أو خلاف أو قتال بين فئتين من المؤمنين، أي أن كلاهما ينتمي إلينا ويدخل تحت لوائنا، فيقول في إيجاز وإعجاز رائعين : (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، هكذا يكون التوفيق بين الأخوة والحسم في الخلافات وتصحيحها، ثم يردف القرآن الكريم في الآية التالية، مذكراً بأهمية الصلح بين المتخاصمين، وأنه الخطوة الأولى التي يجب اتخاذها فيقول: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، صدق ربنا العظيم وبلغ رسوله الكريم، وإنا على ذلك من الشاهدين.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم

الخطبة الثانية

الحمد لله والصلاة السلام على نبيه وحبيبه ومصطفاه وعلى آل وصحبه ومن والاه، ثم أما بعد:
فإننا لا نزال بصدد استخراج القيم الإنسانية في سورة الحجرات، والتعرض للنفحات الإيمانية والأخلاقية الراقية التي تقوم عليها المجتمعات وتصلح بها أحوال الأمم، وتقل بفضلها المشاحنات والعداوات.

بعد الحث والتوجيه على الصلح بين التخاصمين والأخذ على يد الظالم ومنعه من الظلم، والتذكير برابطة الأخوة في الدين وقدسيتها، تنتقل السورة الكريمة إلى معالجة سلوك مذموم وخلق مقيت ينشأ عنه الكثير من الخلافات ويورث الحنق والضيق، ويكون فيه ما فيه من وقع الأذى والحزن في نفس من يقع ضحية له، وهذا الخلق السيء هو السخرية من الآخرين، واللمز والتنابز بالألقاب، وهذا لعمري من أسوأ وأحط الأخلاق.

ومن الظلم والجور أن يرى الإنسان في نفسه خيرية أو فضلا تعطيه الحق في السخرية من غيره، أو التقليل من شأنه أو ذمه أو وصفه بما يكره، وهذا أيضاً مما ينافي العقل والحكمة، لأن الشواهد كلها تؤكد أن لا فضل لإنسان فيما هو فيه من عز أو جاه أو مال أو صحة أو قوة أو أهل أو ولد، فكل تلك النعم عرضة للزوال والتحول في طرفة عين، فقد يصبح العزيز زليلاً والصحيح مبتلى، والرفيع وضيعاً فإن دوام الحال من المحال، وأن من يمنح العزة والفضل قادر على نزعه، وليس هذا الرادع فحسب بل ان الرادع الأقوى أننا لا نستطيع أصلا الجزم بالأفضلية ولا الحكم لأنفسنا بالخيرية، فمن يدري فلعل من يقع عليه الذم أو توجه إليه السخرية أفضل منا عند الله وأعز مقاماً.

ولا غرو؛ فقد علمنا نبينا “صلى الله عليه وسلم” أنه ربما عبد أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره، يقول عز وجل في نهي صريح عن تلك الأخلاق المقيتة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

ثم تنقل السورة الكريمة إلى توجيه آخر وتنهى عن خلق سيء وفعل مذموم، من شأنه أن يفسد المودة ويوغر الصدور ويحول المحبة والصحبة إلى كره وعداء وهو سوء الظن، وما قد يترتب عليه من سوء القول والفعل، كما ينهى عن التجسس والتصنت وتتبع العورات، وطلب الزلات، ثم يعطف على كل ذلك النهي عن الغيبة والنميمة وذكر المرء أخاه بما يكره، أو الخوض في عرضه، فيول في الآية الثانية عشر من السورة ذاتها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ).

وما أقسى التشبيه الذي ذكرته الآية الكريمة حين شبهت بين من يغتاب أخاه بمن يأكل لحمه ميتا، وفي هذا تنفير قوي، وزجر لمن كان له عقل، ثم تختتم الآية سلسلة النواهي بأمر جامع مانع وهو تقوى الله عز وجل التي هي سر كل التزام بمعروف أو انتهاء عن منكر.

ثم تنتقل الآية الكريمة بعد تلك القيم والأخلاقيات الربانية إلى تقرير حقيقة الخيرية ومعيار التفاضل الحقيقي بين الخلق، وفي ذلك ما فيه من نبذ العنصرية ورفضها، واثبات التساوي بين الناس، وأنه لا فضل لأحد على أحد بما يملكه من جاه ولا مال ولا سلطان وإنما التفاضل يقاس بالتقوى، فيقول عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

وتختتم السورة الكريمة ببيان حقيقة الإيمان وأن هناك فرق بين الإسلام والإيمان، كما تؤكد أن الإيمان هو نعمة من الله وفضل منه يمن به على من يشاء (۞ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).

وبهذا تقدم السورة الكريمة منهجاً كاملا لتقويم السلوك الإنساني وترسي قواعد حسن التعامل مع الخلق، نحو بناء مجتمع إسلامي قويم سليم معافى من آفات الجهل وسوء الخلق.


الخطبة الرسمية

الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه الكريم: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، القائل: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

وبعد:
فقد حفل القرآن الكريم بالعديد من الآيات الكريمة التي تؤسس لمكارم الأخلاق، والقيم الراقية، بل إن هناك سوراً كاملةً جاءت مؤسسة لمجتمع إنساني راقٍ، كسورة الحجرات التي أرست مجموعة من القيم والأخلاق، منها: التبين والتثبيت في الأمور كلها، وخاصة إذا كان هذا الأمر يتعلق بشئون الناس، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ).

فالإسلام يبنى كل شيء على اليقين، فهذا سيدنا سليمان (عليه السلام) حينما جاءه الهدهد بخبر الذين يعبدون الشمس من دون الله، ووصفه بالنبأ اليقين، لم يأخذ كلامه مسلماً، وإنما تثبت، وتبين كما حكى القرآن ذلك على لسانه، قال تعالى : (قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْكَاذِبِينَ) ويقول: (صلى الله عليه وسلم) (كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع)، قال الإمام النووي (رحمه الله): فإن الإنسان يسمع في العادة الصدق والكذب، فإذا حدث بكل ما سمع، فقد كذب لإخباره بما لم يكن، ولما دخل رجل على سيدنا عمر بن عبد العزيز (رحمه الله)، وذكر له عن رجل شيئاً، قال له: إن شئت نظرنا في أمرك؛ فإن كنت كاذباً، فأنت من أهل هذه الآية: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) وإن كنت صادقاً، فأنت من أهل هذه الآية: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ)، وإن شئت عفونا عنك، فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه.

فلو حرص على كل منا على التثبت والتبين قبل إصدار الأحكام، أو قبل بث ونشر كل ما يصل إليه، لفقدت الإشاعة أثرها، ولأحجم مرجو الإشاعات عن نشرها بين الناس.

ومنها: البعد عن الغيبة، يقول تعالى: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)، وعن أبي هريرة (رضى الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، قال: (أتدرون ما الغيبة؟)، قالوا: (الله ورسوله أعلم)، قال: (ذكرك أخاك بما يكره)، قبل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته)، وما أقدم الإنسان على الغيبة إلا لانشغاله بعيوب الناس عن عيوب نفسه، يقول (صلى الله عليه وسلم): (يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه، وينسى الجذع في عينه).

بل إن الإنسان مطالب بأن يرد عن عرض أخيه، حيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): (من رد عن عرض أخيه، رد الله عن وجهه النار يوم القيامة).

ومنها: اجتناب اللمز، يقول تعالى: (وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ)، أي؛ لا يعب بعضكم على بعض، ويكون اللمز: بالقول، والهمز بالفعل، وقد نهى القرآن الكريم عنهما، يقول تعالى: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)، وهذا تحذير من همز ولمز الناس، ووعيد بهلاك شديد لمن يقع في هذا، وعن أبي مسعود (رضى الله عنه)، قال: (لما أمرنا بالصدقة، كنا نتحامل، فجاء أبو عقيل بنصف صاعٍ، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل الآخر إلا رئاءً، فنزلت: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

ومنها: عدم السخرية من الناس، فالمؤمن الحق لا يسخر، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً)، فقد نهانا ديننا عن كل ما يؤذي الآخرين، فمن صفات المسلم ألا يكون مؤذيا لأحد، ولا يأتي منه إلا الخير للناس، ونفع الإنسانية.

ولقد كان (صلى الله عليه وسلم) ينهى عن كل ما يؤذي المشاعر قولاً، أو فعلاً، أو إشارة، فكان (صلى الله عليه وسلم) يبث في الإنسان ما يرفع شأنه وفضله في أعين الناس، فعن أم موسى، قالت: ذكر عبد الله بن مسعودٍ عند على، فذكر من فضله، ثم قال: لقد ارتقى مرة شجرة، أراد أن يجتني لأصحابه، فضحك أصحابه من دقة ساقة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ما تضحكون؟ فلهو أتقل في الميزان يوم القيامة من أحدٍ).

أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين؛ سيدنا محمد، وآله وصحبه، والتابعين.

إخوة الإسلام: إن من أعظم القيم التي دعت إليها سورة الحجرات: إعلاء مبدأ الأخوة والإصلاح بين الناس، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، فالإصلاح من أعظم القيم التي دعت إليها السورة الكريمة، والتي يدعو إليها ديننا الحنيف الذي يؤسس لمجتمع إنساني متماسك متسامح، ويعمل على إرساء قيمة العيش المشترك في جو من الألفة والتقارب، بعيداً عن التنازع، وهو علاج لكل مواطن النزاع والخلاف.

ففي إطار الأسرة يدعونا القرآن الكريم إذا ما وقع خلاف بين الزوجين، ولم يتمكنا من معالجته إلى إرسال من يتوسم فيه الصلاح من أهلهما إصلاح بينهما، يقول تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً).

وتمتد هذه الروح الإصلاحية إلى المجتمع ليكون متصالحاً، حيث يقول الحق سبحانه: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروفٍ أو إصلاحٍ بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً).

وقد بين النبي (صلى الله عليه وسلم) جزاء الإصلاح، وأثر فساد ذات البين في قوله (صلى الله عليه وسلم): (ألا أخبركم بأفضل درجةٍ من الصلاة والصدقة؟)، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (إصلاح ذات البيت، وفساد ذات البين هي الحالقة، فلا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين).

فالمؤمن الحقيقي يجعل من الإصلاح منهج حياة، فحيث نجده نجد الخير، يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : (إن من الناس مفاتح للخير، مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر، مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه).

اللهم أهدنا لأحسن الأخلاق، إنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، إنه لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، واحفظ مصرنا، وسائر بلاد العالمين.

هنا أيضًا: خطبة عن فضل شهر شعبان «الصحيح والضعيف»

أضف تعليق

error: