نظرة جامدة.. قصة حزينة ومؤثرة

نظرة جامدة , قصة حزينة ومؤثرة

نهضت من نومها في موعدها اليومي مثقلة الرأس بالصداع وخائرة القوى كحالها منذ أيام. ارتدت روبها الأزرق الفاتح فوق قميص نومها ودلكت ما تحت عينيها برفق كأنما تنفض عنهما أثر النوم القلق المضطرب، ثم رمقت زوجها النائم في فراشه بنظرة جامدة كأنما تنكر عليه نومه العميق المطمئن وغادرت الغرفة.

خرجت من الحمام إلى المطبخ فوضعت إبريق الماء فوق النار والخبز في الفرن وفتحت الراديو فانسابت منه كلمات أغنية عمقت من إحساسها بالشجن.

كل عام وأنت بسلامة وخير… سلامة وخير يا أمي… الكلمات جميلة لكن الأثر غامض وحزين ويجدد الآلام.

توارت ذكرى الأم في مخيلتها فلم تعد تذكر عنها الكثير، ومن بعدها تراجعت صورة الأب حتى تحولت إلى ذكرى قديمة… وها هي الأيام تنذر بآلام جديدة.

علي غير انتظار!

ترقرقت دمعة في عينيها مع تصاعد إحساسها بالشجن، فغادرت المطبخ إلى غرفة الأبناء. رمقت هادية نائمة متكورة في فراشها كعادتها وراضي الذي يطيح كل ليلة بالغطاء عنه مهما ابتكرت من حيل لتثبيته، بحنان ممتزج بالخوف، ثم بدأت بإيقاظ هادية الأسرع استجابة دائما.

وبدأت جهادها اليومي مع راضي. هادية أكثر مسالمة وأكثر عاطفية… أما راضي فهو متعب قليلا لكنه طيب ويعبر عن مشاعره بالتصرفات وليس بالكلمات. غادر الابنان غرفة نومهما إلى الحمام فرجعت إلى المطبخ لإعداد الإفطار.

أجمل أوقات نومها حين تجمعها مائدة الإفطار كل يوم بهما فيتبادلون الحديث والمداعبات والأخبار، ثم يخرج الابنان إلى المدرسة فتعد إفطار زوجها وتجلس إليه لتشاركه قهوة الصباح، يئس منذ سنوات من استجابتها لرجائه بأن تنتظره لتناول الإفطار معه، وسلم برغبتها في مشاركة طفليها إفطارهما لكي تشجعهما على تناوله.

في زمان سابق كانت تشرف بنفسها على دخولهما الحمام… واغتسالهما وارتداء ملابسهما. لكن ما أسرع ما يكبر الأبناء ويعتمدون على أنفسهم في مثل هذه الأشياء الجميلة!

كبرت هادية وراضي سريعا… واعتمدا على نفسيهما في أشياء كثيرة، لكن القلب لا يسعد أبدا بتراجع أهميته لدي الأعزاء!

جلس الثلاثة إلى مائدة الإفطار… وما زال صدى كلمات الأغنية الحزينة يثقل مشاعرها بالشجن… فعزفت عن تناول الطعام وراحت تحتسي الشاي في صمت وهي ترقب طفليها في أسى غامض!

تنبهت من أفكارها على صوت هادية تسألها في عطف: مالك يا ماما؟

فاغتصبت ابتسامة شاحبة وطمأنتها إلى أنها على خير ما يرام!

هادية أكثر رقة من راضي لكن راضي لا يخلو أيضا من حنان يعبر عنه عند الضرورة بطريقته الخاصة.

تسألني عما بي… فبماذا أجيبها؟ كيف أشرحه لها وكيف تتفهم الصغيرة عمق أحزان الكبار؟

بي إحساس قديم باليتم والانكسار… وخوف شديد من الغدر وتقلبات الأيام! فقدت أمي وأنا طفلة صغيرة… وتربيت في بيت عمتي مع أبنائها…

وبعد سنوات قليلة رحل أبي أيضا عن الحياة فترسخ في أعماقي الخوف من عثرات الطريق. لم تكن عمتي قاسية لكني كنت أيضا عبئا لا يضيق به أحد… ولا يرحب به أحد في نفس الوقت… وشتان بين إحساس الابن بحقه على أبويه… وبين إحساس الضيف الذي لا يحق له أن يطالب بما لا يقدمه له مضيفه طواعية، أمضيت طفولتي وصباي أشعر بأنه لا حق لي على أحد ولا أطالب بشيء، وحين تقدم لي زوجي الأول لم أكن مرحبة به، لكني لم أجرؤ على رفضه لمميزاته التقليدية… ولأن الرفض ترف لا يملكه إلا الأبناء وحدهم وليس الأعباء! حتى ابنة عمتي المتمردة ثارت على وقتها واتهمتني بالضعف والتخاذل وطالبتني بالرفض والاحتجاج… فلم أستجب لدعوتها وواصلت الطريق بلا حماس. كان معيدا بنفس كليتي ويستعد للسفر للخارج بعد شهور لإعداد رسالة الدكتوراه وتم زفافي إليه قبل شهور من سفره، ثم سافر إلى بعثة ورجعت إلى بيت عمتي أحمل ثمرة الزواج في أحشائي… وبعد شهر آخر اكتشفت وفاة الجنين قبل مولده وكدت أفقد حياتي في جراحة الإجهاض الخطرة.

انتظرت دعوة زوجي لي للحاق به حيث يقيم كما كان الاتفاق بيننا… فبدأت المراوغة وإبداء الأعذار. كان مفروضا أن يرجع في إجازة لمدة شهر بعد عامين فلم يرجع… ولم يستقدمني إليه فمضت أربع سنوات كاملة ولا شيء يربطني به سوي الخطابات! ثم تكشف الغدر سافرا بعد سنوات الانتظار فرفض العودة نهائيا وفصل من كليته وتزوج هناك وأرسل إلى بورقة الطلاق!

تجرعت مرارة الغدر والخذلان وتعرضت لمتاعب صحية ونفسية جسيمة انتهت بتأكدي من استحالة إنجابي مرة أخرى، فبدا لي واضحا أن الحياة لم تسمح بعد بالأمان. تقدم لي زوجي الحالي بعد طلاقي وتقدم لي غيره، لكني فضلته على الآخرين لأسباب لم يعارضني فيها أحد حتى ابنة عمتي المتمردة.

فقد كان أبا لطفلين صغيرين حائرين هجرتهما أمهما وتزوجت ورحلت مع زوجها الجديد. كانت أصغرهما طفلة عمرها3 سنوات وأكبرهما طفل عمره أربع… هما أنت وراضي… فخفق قلبي لكما قبل أن أراكما، وقدرت أن أباكما سوف يحتاج إلى أكثر مما أحتاج إليه ولن يغدر بي ذات يوم كما فعل زوجي السابق، فتزوجته وحرصت على نجاح زواجي منه مهما كانت العقبات… وأفرغت فيكما كل أمومتي المحرومة وكل إشفاقي عليكما من افتقاد الأمان! وأحببتكما من قلبي وسعدت بلفتات حبكما الصغيرة لي، وبالغت في رعايتكما والعناية بكما حتى أصبح ذلك موضع نقاش مستمر بيني وبين أبيكما الذي يريد لكما الاعتماد على نفسيكما. عارضني حين رغبت في التفرغ لكما فلم أستجب لمعارضته وحصلت على إجازة من عملي دون مرتب، وتفرغت لكما منذ سنوات. وكلما جاء موعد تجديد الإجازة تجدد الجدال بيني وبينه… وحسمته بالإصرار على أن أصبح لكما أما متفرغة حتى سألت نفسي أكثر من مرة: هل أحب زوجي لأنه أبوكما… أم أحبكما لأنكما ابناه أو لأنكما أشبعتما حرماني العاطفي من الأطفال؟ فهل يرضيك بعد كل ذلك ياهادية، وبعد ثماني سنوات طويلة من الحب والأمان أن أكتشف منذ أيام أن زوجي على صلة بأمكما وأنه يرتب معها لأن تزوركما في الصيف القادم وتراكما لأول مرة منذ هجرتكما بلا ندم؟

لقد كان صباحا كهذا الصباح الذي يجمعنا الآن وبعد أن خرجتما إلى المدرسة، وخرج أبوكما إلى عمله… بدأت أرتب غرفة النوم وأخرجت من دولاب الملابس بدل زوجي التي سأكويها… وكعادتي قبل أن أفعل ذلك فتشت البدل حتى لا أكويها وبها شيء يتكسر كما حدث من قبل مع نظارته… فإذا بي أجد في جيب إحدى بدله خطابا بل خطابات من زوجته السابقة تقول فيها إنها تشتاق إلى رؤيتكما وتحدد الصيف القادم موعدا لعودتها مع زوجها وولديها منه وتشكر أباكما لترحيبه بأن تري ابنيها الغاليين بعد كل هذه السنوات؟

ابناها الغاليان؟ وأين كانت إذن حين كانا يحتاجان إليها وأنت يا هادية في الثالثة… وأخوك في الرابعة من عمره؟ ولماذا هان عليها الابنان الغاليان فتركتهما لأبيهما وتركته ولم تستجب لتوسلاته بألا تحطم زواجها وتتخلي عن أبنائها؟ ومتى رجعت هذه الصلة بينها وبين زوجي عن طريق الخطابات؟ ولماذا أخفاها عني؟ ولماذا لم يصارحني بالأمر منذ البداية؟ بل ولماذا يبدو في الفترة الأخيرة وكلما اقترب موعد عودتها مضطربا قلقا كأنما يهم بأن يصارحني بشيء مهم، ثم يتخاذل عنه في اللحظة الأخيرة؟

هل يخشى غضبي من هذه الاتصالات؟… هل يخشى رفضي لهذه العلاقة الجديدة التي ستقوم بينكما وبين تلك المرأة الأخرى التي تخلت عنكما وأنتما في أشد الحاجة إليها؟

إنني لا أمانع بالطبع في أن تراكما تلك السيدة وفي أن تريانها… ولا في أن تقدم لكما- كما قالت في خطابها- بعض الهدايا والملابس حتى ولو كرهت ذلك في أعماقي؟ لكن هل الأمومة مجرد لقاء خاطف لعدة ساعات أو أيام وبعض الهدايا والملابس مهما غلا ثمنها؟

وأين كانت تلك المرأة وأنا أغسل لكما ملابسكما الداخلية الملوثة بحب وحنان وأنشرها على حبل الغسيل… وأعد لكما أنواع الطعام التي تحبونها وأصطحبكما إلى مدرسة الحضانة في يومكما الأول بها وأرفض الانصراف منها برغم إلحاح المدرسة لأنكما طلبتما مني ذلك؟ بل وأين كانت وأنا أحملكما من عيادة طبيب إلى طبيب آخر لأعطيكما الأمصال اللازمة في مواعيدها المقررة، وحين ذاكرت لكما دروسكما… وسهرت بجواركما حتى الصباح إذا أصابت أحدكما وعكة… بل وأين جنوني وهذياني وخوفي وقلقي ودعائي لربي بخوف ورجاء حين مرضت أنت يا هادية مرضا قاسيا عنيدا طال أكثر من شهر وتدهورت صحتك حتى سلمت أمري فيك لربي وكدت أفقد صوابي؟

والآن فقط تشتاق إليكما بعد 8 سنوات طويلة وبعد أن استوى كل منكما ابنا رائعا مهذبا تفخر به كل أم؟

إنني منذ علمت بما يدبره زوجي معها… وأنا لا أطيق أن تلتقي عيناي بعينيه، وأختلس النظر إليه من حين إلى آخر في غيظ مكتوم، وأحس أني أريد أن أنشب أظافري في وجهه كلما اشتدت على مخاوفي أن تتسربا من بين أصابعي أو تتوجها ببعض مشاعركما إلى تلك المرأة الأخرى التي تريد الآن قطف الثمار بغير أن تروي شجرتها بالعرق والدموع… فهل هذا يا ربي عدل السماء؟

إن عمتي تقول لي إن هذا من حقها مهما كانت أما سيئة أو أنانية وأنه من حقكما أيضا كأطفال مهما كان ارتباطكما بي… وأنا لا أعترض على حق أحد لكني كنت أتمنى في أعماقي أن تجيء المبادرة من جانبي فأحدثكما طويلا عن حقوق الأم على أبنائها حتى ولو كانت قد تخلت عنهما… وكنت أتمنى وما زلت أتمنى أن يجيء الإنكار من ناحيتكما… ويجيء نداء الواجب الذي لا مفر منه من ناحيتي أنا… فهل تفعلان حقا؟ وهل تؤكدان لي أن أمومتي لكما لن تضيع هباء ولن تنسيا أبدا أنني أمكما الحقيقية مهما توسلت الأخرى بالوسائل والمغريات؟

إن عيني تدمعان حين تنادياني بالكلمة الحبيبة ماما… فهل سأظل كذلك بالنسبة لكما مهما جري من أحداث؟ أم سيجيء يوم أشعر فيه بأن الخيوط التي تربطكما بي قد انتقلت إلى يد تلك المرأة الأخرى وأنتما أثمن الأشياء في عالمي الصغير؟ لقد بكيت فرحا حين تغاضيت ذات مرة مع أبيكما فبكيت أنت يا هادية بالدمع الغزير وقبلتني بحنان وقلت لي في عطف: ما زلت أسترجع لمسته الحانية: معاش يا ماما! وبكيت أكثر وأكثر حين سمعت راضي الذي لا يحسن التعبير عن مشاعره بالكلمات يتشاجر مع أبيه من أجلي! فهل تسرق الأخرى مشاعركما الغالية هذه نحوي؟

إنني أكاد أجن كلما تصورت ذلك… وأرقب الأيام خائفة مما سوف تحمله لي… فهل تسعدان قلبي الحزين بتبديد مخاوفي؟

تنبهت الأم فجأة من استغراقها في أفكارها على راضي يضغط على يدها لتلتفت إليه… ويقول لها: ماما… ماما… لدينا مباراة كرة قدم اليوم بعد انتهاء الدروس، وسأشارك فيها وسيفوتني موعد أتوبيس المدرسة في العودة… فهل تطلبين من بابا أن يرجعني إلى البيت؟

تأملت ملامحه المتحفزة دائما التي تعكس جانبا كبيرا من ملامح أبيه للحظات فتعجلها الإجابة خائفا من الرفض: ماذا قلت يا ماما؟

فاستردت نفسها سريعا وتسللت الابتسامة إلى وجهها رغما عنها وقالت: لن أقول لأبيك شيئا وسأجيء أنا لاصطحابك إلى البيت.

فابتسم راضيا وسعيدا وشكرها، ثم نهض مع هادية عن المائدة وحمل كل منهما حقيبته وهما بالخروج فاستمهلتهما أمهما كعادتها اليومية ثم أسرعت إلى غرفة النوم ورجعت حاملة زجاجة عطرها المفضل، فرشت رذاذها على وجه هادية وشعرها… واستجابت لرغبة راضي التقليدية فركزت رذاذ عطرها على يديه ليمسح بهما وجهه كما يفضل دائما، وودعها الطفلان باسمين وغادرا الشقة. راقبتهما باهتمام حتى هبطا درج السلم ثم أغلقت الباب وراءهما وهمت بالاستدارة لتدخل المطبخ وتعد إفطار زوجها قبل أن توقظه ففوجئت بصوته يجيء إليها من خلفها متسائلا: خرج الأولاد؟

فأجابته وهي تتجنب النظر ناحيته… وتتجه إلى المطبخ: نعم خرجوا منذ لحظات.

ثم دخلت المطبخ فوضعت إبريق الماء فوق النار وانشغلت بإعداد إفطار زوجها وقهوتها وصدى سؤاله ما زال يتردد في أذنها: خرج الأولاد؟ فتجيبه في خيالها بأمل ورجاء كأنما تطمئن نفسها: نعم خرجوا… لكنهم سيعودون إليّ مرة أخرى… وسيعودون إلي دائما مهما كانت مرارة الغدر وقدرة الخداع!

بقلم: عبدالوهاب مطاوع

أضف تعليق

error: