النبي ﷺ هاجر إلى ربه قبل أن يهاجر الناس بدينهم.. كلمات بليغة

الهجرة النبوية

لكل أمةٍ بداية، وتأريخ هذه الأمة حيث ارتأى أمير المؤمنين -رضي الله عنه- أن تكون الهجرة هي البداية، لثقلها -أي لثقل وزنها- في عُمر الزمن، ولخطورة شأنها في نفوس المسلمين، وليست بداية تُكْتَب، وإنما هي بداية اعتُصر فيها الإنسان اعتصارا، واختُبر اختبارا شديدا، وكانت الفِتن والمكاره تُحيط به. فأثبت وجوده، وحقق للأجيال التالية كسر حِدةٍ خطيرة؛ فكسر حِدة الكفر، وكسر حدة الفساد، بل أنهاها من نفسه قبل أن تُلغى من المجتمع.

فكل مسلمٍ عاصر الإسلام من بدايته هو أُمَّة في ذاته. أُمَّةٌ كاسرة للأكاسرة.

وهكذا يبدأ التأريخ بأهله. فالهجرة حادثة كُبرى، وهي حادثةٌ في كل نفس؛ وفي كل مسلم، في عقله عقيدة وفي قلبه يقين، وفي روحه نور الإسلام، وفي جسمه حركة هذا الدين.

إنها أُمَّة، قد أُرِّخ لها وهي التأريخ، وكُتِب عنها وهي الكلمة، وتشرَّف الناس بها وهي التي علمت الشرف.

لقد جُذبت نحو نورها وسارعت إلى منقذها، وأحاطت كالهالة بكوكب الوجود ونجم الحياة؛ السيد السند، الحبيب المصطفى سيدنا محمد ﷺ.

وكان النبي ﷺ وحيدا في هذه الأرض، وقد هجرت نفسه كل ما حولها، فصعد إلى الجبل، يتحنَّث الليالي ذوات العدد؛ فهجر الدنوّ إلى العُلا، وهجر الخلط إلى الوحدة؛ فكان في غار حراء ﷺ قبل البعثة. وقد هَجَر قومه؛ هجر عقيدتهم ولم يتأثر بها، فكان المهاجر الأوّل قبل أن تبدأ الهِجرة وقبل أن يأتي سببها. هجر الكُفر والوثن، وهجر الفساد والضلال.

ولم يهجر بعد ممارسة وإنما هجر دون فِعل، ودون اشتراك ومشاركة. أَبَت نفسه إلا أن يكون موحدا للحق ﷻ. فتعبّد على مِلة سيدنا إبراهيم الخليل ﷺ. تعبَّد بالتوحيد، ونظر إلى النجوم والكواكب؛ وجاء الليل والنهار، فتدبَّر حِكَم الكون، وأحكام الحق فيه، فكان مهاجرا إلى ربه.

مُهاجرا عابدا، مهاجرا مفكرا في خلق السماوات والأرض، مهاجرا ينتظر ثمرة الهِجرة، وعاقبة التخلُّص من هؤلاء؛ وهو في غار حراء.

وظل رسول الله ﷺ يتعبّد سنوات كثيرة من صِباه، من شبابه الفتي الذي كان أمثاله فيه منغمسين في شهواتهم وملذاتهم وطغيانهم؛ وهو الفرد في قومه الذي خرج بقوّة شبابه ليستمد قوَّة أكبر.

وخرج بفتوّته، حتى يستنفدها في غير عِلّة وفي غير ضلال. فكان الشباب في الغار هِجرة كاملة، من نواديهم وفتنهم، ومن مؤامراتهم، ومن مكرهم. فكان بعيدا، وهي الهجرة الحق.

فبدأ عهده بهِجرة قومه، وبهِجرة أحوالهم، وما هم عليه. وهذا هو معنى عظيم، يتحقق فيه ﷺ بهجرته إلى ربه، قبل أن يهاجر الناس بدينهم؛ فكان مُهاجرا يُعلِّم البشر كيف تكون العزيمة وسط هؤلاء جميعا.

أضف تعليق

error: